Année : 2018

  • أسرار نفوذ يهود مغاربة في قلب القصر الملكي

    عبد العزيز كوكاس

    آل بَّلاش، سومبال، بن يدَّر، روتي، بلاشا، ميمران، طوليدانو، أبناء عطار، روزاليس، بوزاكلو، آل مقنين، آل قرقوز، آل كدالة، وآل بَنْ عَلِّيل.. هم غيض من فيض سلالات يهودية وجدت نفسها في قلب بلاط المملكة الشريفة، خدام أوفياء للقصر الملكي يحتلون مناصب سامية في قلب نسيج الدولة المغربية بما يشكل الاستثناء في العالم الإسلامي، لقد تحمل بعضهم مسؤوليات جسيمة في الداخل كما في الخارج، في زمن الحرب كما في زمن السلم، بعضهم لعب دور الوسيط بين السلطان ورعيته، وآخرون كانوا سفراء للمملكة الشريفة في ملفات جد حساسة، وتبوأ اليهود المغاربة مكانة بارزة في البلاط السلطاني، الذين شكلوا جزءاً أساسيا من مكوناته.

    « المشعل » تفتح ملف « اليهود المغاربة » من زاوية مغايرة، إذ اعتاد القارئ على مواضيع تقليدية مثل موقع اليهود في النسيج الاجتماعي المغربي، أو علاقة الملك الراحل الحسن الثاني بهجرة اليهود إلى إسرائيل، أو بالتعايش الذي شكل من خلاله المغرب الاستثناء الإسلامي بين الأقلية اليهودية والأغلبية المسلمة، أو بوفاء الجالية اليهودية لأصولها الوطنية…

    « المشعل » تنقلكم بشكل غير مسبوق إلى « يهود البلاط » أي إلى مغاربة يهود كانوا على اتصال قوي بالسلاطين المغاربة منذ قرون، أفراد قاموا بدور طلائعي كتجار وكوسطاء بين المخزن والرعية، وبين المخزن والدول الأجنبية.. ما هي أسباب لجوء السلاطين المغاربة إلى خدمة اليهود؟ ما هي السلط التي كان يتمتع بها « يهود البلاط »؟ وما هي الوظائف والمهام التي كانوا يشغلونها؟

    يقول الباحث الأمريكي دانييل شروتر: « لا يوجد في العالم الإسلامي بلد احتل فيه الوسطاء اليهود مكانة جد مهمة كما هو الشأن في المغرب »، ويؤكد كل من جيرمان عياش وحاييم زعفراني أن اليهود المغاربة كانوا دوماً متعلقين بالعرش في المملكة الشريفة.. هل لأنهم كانوا أقلية في حاجة إلى حماية السلطان؟ أم لأنهم توفروا على قدرات استثنائية وعبرها كانوا ينالون الحظوة في المملكة الشريفة؟

    أسئلة وغيرها تجدونها في هذا الملف الذي تنفرد من خلاله « المشعل » في رصد عالم « يهود السلطان ». عبر نماذج من الأعلام اليهود النافذين في حظيرة القصر الملكي وبالتركيز على شخصية مقنين كما تتبع خيوطها الباحث الأمريكي دانييل شروتر المهتم بتاريخ الأقليات اليهودية في العالم الإسلامي، في كتابه الموسوم بـ « اليهود السلطان: المغرب وعالم اليهود السفرد » الذي قام بتعريبه الباحث المغربي خالد الصغير.

    في منتصب الأربعينيات، وبمناسبة عيد العرش استقبل السلطان محمد الخامس وفدا عن اليهود، وحسب ما ورد في تقرير سري للاستخبارات الاستعمارية المرسلة إلى باريس، أكدت الإقامة العامة أن السلطان قال لمجالسيه من اليهود المغاربة: « أنتم من رعيتنا كالمسلمين ولهذا أحميكم وأحبكم، فكونوا على يقين من أنكم تجدون عندي دائما ما تحتاجون إليه من المساعدة، اسألوا المسنين منكم، سيخبرونكم أن جدي المجيد مولاي الحسن، كان صديقا مخلصا لليهود وأنه أظهر لهم غير ما مرة عنايته.

    إن أجدادكم عرفوه بهذه الصفة وكانوا يحبونه محبة مخلصة، إنني أؤكد لكم أنني عازم على الإبقاء لكم ولإخوانكم، على نفس التقدير ونفس العناية، هذا العيد عيدنا وعيدكم ».

    مباشرة بعد توليه عرش المملكة، التقى الملك محمد السادس مع ممثلي اليهود المغاربة وخاطبهم قائلا: « ليس لدى اليهود ما يثير قلقهم.. إنني عاقد العزم على مواصلة السير على طريق جدي الملك محمد الخامس ووالدي الحسن الثاني، فاليهود هم مواطنون مغاربة كاملو المواطنة وعليهم أن يشعروا بأنهم يعيشون في دولتهم ».

    بين ما قاله السلطان الجد والملك الحفيد أكثر من سبعة عقود، تغير المغرب وانتقلت المملكة الشريفة من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وعمت الكون أحداث عظام غيرت من خريطة العالم، لكن موقف الملكية بالمغرب من اليهود ظل ثابتا: « اليهود مواطنون مغاربة يعيشون في دولتهم المغرب ».

    عائلات يهودية في خدمة السلاطين المغاربة

    إنهم تجار السلطان.. عائلات يهودية بارزة كان لها موقع تجاري متميز، واستمدت نفوذها من ثروتها وذكائها وخبرتها وتنوع مجالات نشاطها وأيضا من الحماية الشخصية التي كان يوفرها لها السلطان، فاعتبروا وكلاء رسميين لدى البلاط السلطاني، كما هو الحال مع التاجر شلومو قرقوز على عهد الخليفة محمد بن عبد الرحمان، وإلياهو ليفي الذي كان أحد أكبر الوسطاء اليهود في البلاط العلوي، تقوت مكانته بعد وفاة صاموئيل سومبال، لكن انقلاب أحوال المملكة على عهد المولى اليزيد، سيدفع السلطان لإلقاء القبض على ليفي الذي رمي به في السجن، لكنه سيعلن إسلامه ويعود من جديد كوكيل للأعمال التجارية باسم السلطان، ويورد حاييم زعفراني في كتابه « يهود الأندلس والمغرب » قائمة كبيرة ممن أسماهم بـ « الأوليغارشية » اليهودية التي ينحدر أغلب عناصرها من عائلات أرستوقراطية عريقة، أغلبهم رقي إلى مراتب سامية كبرى، وبعضهم أصبح متحكما في رؤوس الأموال وفي الأعمال التجارية الكبرى للدولة..

    بعض هذه العائلات كان يتوارث المناصب والمهام والمسؤوليات داخل البلاط الملكي عبر أجيال، وشغلوا أساساً مناصب في الدبلوماسية والتجارة أمثال: عائلة روتي، بلاشا، ميمران، طوليدانو، أبناء عطار، روزاليس، سانانيس، كوركوس وليفي يلي وبن دنان وسرفاتي وبن زمير وكانسينو وإلمليح..

    منذ الدولة المرابطية كان لنجباء اليهود وتجارهم الكبار موقع الحظوة في البلاط السلطاني، ويورد بن خلدون في كتابه « تاريخ العبر وديوان المبتدأ والخبر » أسماء الكثير من العائلات التي وصلت إلى مراكز متقدمة في مراكز القرار في الإمبراطورية الشريفة، أمثال آل وقاصة، التي نجح بعض أفرادها في أن يصبح حاجبا للسلطان، مثل خليفة بن وقاصة الذي عظم نفوذه وتقوت شوكته على السلطان أبي يوسف يعقوب، وعين أفراد من عائلته في هرم الجهاز الإداري السلطاني، بينهم الوزراء والعمال، ولم يكن خليفة بن وقاصة في البداية سوى عاصر لخمر السلطان وساق له، قبل أن يتحول إلى نديم، ويصبح وعائلته آمراً ناهيا،

    موسى أفلالو: خادم السلطانين المولى الحسن والمولى عبد العزيز

    أحد أبرز النخبة اليهودية التي كانت مقربة من البلاط السلطاني، قدم خدمات جليلة لكل من السلطانين المولى الحسن الأول والمولى عبد العزيز، فبرغم إقامته في قلب العاصمة البريطانية نجح موسى أفلالو في إقامة علاقة قوية مع النافذين في قلب مملكة التاج البريطاني، ستسمح له بأن يصبح مفاوضا باسم السلطان على المستوى الدبلوماسي والتجاري، وكان وسيطا بارعاً بين الإمبراطور المغربي والحكومة البريطانية، التي حصل منها على ذخائر وأسلحة للحرب ومؤن تسد حاجة السوق الداخلية للمملكة الشريفة، وكان موسى أفلالو بحكم سعة إطلاعه يقوم أيضا بدور السفير المغربي والوكيل الإعلامي الذي ينقل للسلطان كل ما يقال وينشر عن المغرب والعالم الإسلامي في بلاد الفرنجة..

    ويعتبر موسى أفلالو أحد مشاهير اليهود المغاربة الذين نالوا الحظوة لدى البلاط المخزني، وتكلف بمهمات جسيمة خاصة مع الإنجليز.

    صاموئيل سومبال: الوكيل الدبلوماسي وكاتب السلطان سيدي محمد بن عبد الله

    بزغ نجم صاموئيل سومبال في أواسط القرن 18، وقد قربه السلطان سيدي محمد بن عبد الله، لثقافته وإطلاعه الواسع، وبحكم موقعه التجاري، حتى أصبح الوكيل الدبلوماسي للسلطان المكلف بالعلاقات الخارجية، ووسيطا بين البلاط الشريف وتجارة المراسي، بل سيصبح الكاتب اليهودي الرئيسي لسيدي محمد بن عبد الله الذي اعتمد على موقع سومبال لإنشاء مدينة الصويرة عام 1764 التي نجح في تحويلها إلى أكبر مركز تجاري بالمملكة الشريفة.

    قام صاموئيل سومبال باختيار عشرة من أكابر التجار اليهود منح لهم امتيازات خاصة باسم السلطان لإعمار المدينة الجديدة، تجار نافذون في الدول الأوربية ولهم شبكة من العلاقات كان يعتمد عليها السلطان في شؤون التجارة أو في علاقاته الدبلوماسية بالدول الأجنبية.

    كان صاموئيل سومبال متعدد المواهب، فقد تلقى تربية فرنسية في مرسيليا بفرنسا التي أتقن لغتها وثقافتها، وكان يتميز بشخصية قوية جعلت منه مفاوضا بارعاً، كانت له اليد الطولى في بلاط السلطان عبد الله وخلفه سيدي محمد.. الذي استفاد من خدمات سومبال وقدم له الحماية اللازمة، فجمع بين مهام الوسيط التجاري والوكيل الدبلوماسي، والمترجم والكاتب الخاص في البلاط المخزني، لكن طمعه الزائد أوقعه في المحظور، بعد أن تقوى نفوذه وأصبح يفرض على الممثلين الأجانب الذين يريدون لقاء الملك، إتاوات، بل تلقى صاموئيل سومبال رشاوى من الدول الأجنبية، وهو ما وصل إلى علم السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي استشاط غضبا، فحاول سومبال الفرار في زي إسلامي إلى غينيا، لكن أعين السلطان أدركته فألقي عليه القبض ونقل إلى سجن سلا، قبل أن يعفو عنه السلطان بفضل وساطات يهودية وأيضا بسبب عدم وجود شخص يماثله في الذكاء والخبرة، فأعاد تعيينه كاتبا أول. كتب المؤرخ هوشت عن هذه الواقعة قائلا: « كثيراً ما وضعت وفاة صاموئيل سومبال السلطان في حالة من الحيرة والارتباك، لأنه افتقده كثيراً، ولم يستطع العثور على الشخص المناسب القادر على العناية بشؤونه، بالقدر نفسه من المثابرة والذكاء اللذين كان يتحلى بهما هذا اليهودي » (عن كتاب تاريخ الإمبراطور »).

    وقد توفي سومبال مسموما بمدينة طنجة عام 1782.

    هرون بن مشعل اليهودي المستبد الذي حول تازة إلى مملكة خاصة وانتهى بشكل مأساوي

    عائلة مشعل، عائلة يهودية عريقة، اشتهرت بثرائها ونفوذها التجاري واعتمد عليها الملوك المغاربة لعقود طويلة.. ولد هرون بن مشعل بوجدة وارثا عن أسرته المجد والثروة والمكانة الاجتماعية في قلب البلاط السلطاني، كان يسكن القصور الفخمة ويتمثل بحياة السلاطين في مدينة تازة التي حول قصبته داخلها إلى حصون منيعة.. في رحلات صيده وخروجه في الساحات العامة، أحاط هرون بن مشعل نفسه بالخدم والحشم، وأدى به غروره إلى الطغيان والجبروت.. كان في البداية يعمل لفائدة السلطان لكن مع نشوء الدولة العلوية سيصبح هرون بن مشعل حاكما على منطقة تازة، كانت له ابنة اسمها زليخة.. شابة مثقفة كانت تقوم بدور المترجم في لقاء أبيها مع القناصل والدبلوماسيين الأوربيين، وكان هرون يتشبه بحياة الملوك يفرض الجزية والأتاوات، ينزع النساء من حضن أسرهن، يحضر الغواني والحسان إلى قصره، يجلس جلسة الأمراء يحتسي الماحيا في لهو وطرب، وفي الصباح يتحول إلى مستبد يجلد هذا وينتزع أرض هذا، ويخطف بنت هذه العائلة ممن لم تقو على تأدية الضرائب التي لم يعد يصل منها إلى خزينة الدولة سوى النزر القليل، وقد كانت نهايته على يد المولى رشيد الذي يقال إنه دخل متخفيا إلى قصر هرون بن مشعل وفصل رأسه عن جسده.

    مقنين.. يهودي السلطان الذي يختزل تاريخ مكانة اليهود في القصر السلطاني

    مايير هو الولد البكر لأبراهام كوهين الذي لقب في الحومة بمقنين نسبة للطائر العذب الصوت.. لجمال صوته، ولد بمراكش في القرن 18 بملاحها الشهير، بعد تأسيس المولى محمد بن عبد الله لمدينة الصويرة عام 1764، رحل التاجر أبراهام جاكوهين بن مقنين إلى المدينة الجديدة رفقة أبنائه الأربعة: شلومو، مسعود، دافيد ومايير.

    كان ميناء الصويرة قد أصبح أحد أكبر المراكز التجارية في المغرب بحركيته الاقتصادية النشيطة، ومن هذه المدينة سيتعمق الدور اليهودي في بلاط السلاطين العلويين، الذين كلفوا تجارا يهودا كبار بتزويد خزينة المخزن بالضرائب، وبشراء الأسلحة التي يحتاج إليها القصر الملكي سواء في معارك المخزن ضد قبائل السيبة أو في صراعه ضد أطماع الدول الأجنبية.

    سيبزغ اسم مايير مقنين، الذي كان يتمتع بذكاء خاص وبحس تجاري، في الربع الأخير من القرن 18، حيث سيصبح تاجراً كبيرا وممثلا للسلطان في المعاملات التجارية مع الأوربيين وذلك لنفوذه ولذكائه، ولثقة السلطان سيدي محمد بن عبد الله في وفائه، خاصة بعد أن اكتشف أن عامله على ميناء أكادير الطالب صالح بدأ يشتغل لحاسبه الخاص وباستقلال عن السلطة المركزية بل إنه تمرد على السلطان وأخذ يستأثر بالأرباح والضرائب الناجمة عن المرسى لحسابه الشخصي، لذلك سيلجأ المولى سيدي محمد بن عبد الله إلى إغلاق ميناء أكادير والتركيز على المرسى الجديد بالصويرة حيث سيبزغ نجم مايير مقنين.

    من التجارة إلى السياسة

    نجح مايير مقنين في ضمان وصول الأرباح التجارية إلى المخزن، وقام بدور ناجع في الوساطة بين السلطان والتجار الأجانب، الذين كان يقودهم إلى مراكش وزيارة القصر الملكي محملين بهداياهم، وكان يضمن لهم بالمقابل الحصول على امتيازات ومكاسب تجارية، فمكنه ذلك من بناء علاقات قوية في مراكز النفوذ بأوربا.

    لم يكن مقنين لوحده ممثلا للطائفة اليهودية في البلاد الملكي، فقد كانت هناك لائحة عريضة ليهوديي الإمبراطور سيدي محمد بن عبد الله تضم وسطاء نافذين أمثال إلياهو ليفي، يعقوب عطال، مدد خاي دي لامار، دافيد وإسحاق لوردوزو، فرانشيسكو كيابي وصامويل سومبال… الذي عمل في بلاط المولى عبد الله وابنه سيدي محمد، ويصفه دانييل شروتر بـ « المفاوض البارع والمترجم والكاتب المتميز »، غير أن استغلاله لمنصبه ولسلطته في تلقي الرشاوى من التجار الأجانب الذين يريدون مقابلة السلطان ونزعه لممتلكات من هم أقل نفوذا، جلب عليه غضبة الملك، فاعتقل بعد محاولته الفرار إلى غينيا.

    أصبح مايير مقنين أحد أشهر التجار اليهود بالصويرة، وكان عامل المدينة عمر بن الداودي يقدم له الحماية، لكن ذكاء مقنين دفعه إلى تشييد علاقة متينة مع خلفه محمد الصادق، وسيمكنه ذلك من بناء علاقات واسعة من جهة مع النخبة المخزنية على عهد المولى سليمان، ومن جهة أخرى مع التجار الأجانب في الدول الأوربية النافذة، وكان أحد أعمدة السلطان في إعادة الحياة لميناء أكادير وسيصبح ممثلا شخصيا للمولى سليمان الذي تؤرخ رسالة مخزنية صادرة عن السلطان إلى ابن أخيه وعامله على أكادير لحظوة مقنين لديه، مما جاء فيها: « حيث يرد عليك ذمي خدمتنا الشريفة ميِّر بن مقنين، نأمرك أن تنفذ له داره ينزل ويعمرها بالتجارة.. واستوصي به خيرا وميزه عن تجار اليهود هناك، لأنه ذمينا ومتاعنا ».

    من مرسى أكادير ستتوطد مكانة مايير مقنين في قلب النخبة التجارية بالمغرب، داخل الأسر اليهودية النافذة في البلاط من جهة، وفي بناء علاقة متميزة مع التجار الأوربيين من جهة أخرى.. وهو ما سيؤهله للعب دور الوكيل الدبلوماسي للسلطان وأثبت نفسه كعنصر لا يمكن الاستغناء عنه في التجارة كما في حقل الدبلوماسية.

    ولأن اليهود أقلية، فإن مايير مقنين بذكائه المتعدد الأبعاد كان يعرف ألا سبيل إلى فرض مكانته والحفاظ على نفوذه سوى ببناء ثروة وبناء نفوذ سياسي للحفاظ عليها..

    وبرغم المرحلة العصيبة التي اجتازها المغرب بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله مع تعدد الراغبين في الحكم، ورغم العنف الدموي الذي جرف الكثير من النخب اليهودية على عهد المولى يزيد، فقد ظل مايير مقنين أحد التجار الأكثر نشاطا في مدينة الصويرة، وفي نهاية القرن 18 أصبح يتمتع بكامل النفوذ في قلب سلطة المخزن المركزية بين أكادير والصويرة، أضحى مايير هو الذي يتولى إدارة المعاملات التجارية لصالح السلطان، ولقب بـ « كبير مدينة الصويرة »، وقد حصل بفضل ذلك على امتيازات السلاطين وعلى تقدير كبير من الحاشية ومن الراغبين في التوسط لهم لدى السّلطان لقضاء مصالحهم.

    لذلك كلفه الإمبراطور المغربي بإعادة الاعتبار لمرسى أكادير وإحياء التجارة بآسفي، ومنح بشكل استثنائي رخصة استيراد الحبوب، مقابل جلب الذخيرة إلى السلطان، ولأن المصاهرة هي باب لنعيم السلطة، وتقوية للموقع الاقتصادي والاجتماعي فقد تزوج مايير مقنين بالزوهرة بنت مايير بنِّطو أحد أكبر العائلات اليهودية نفوذاً وجاها وسلطة في القرن 18 وبداية القرن 19 بالمغرب، حيث مرت طقوس العرس في أجواء باذخة استدعي لها كبار القناصل والتجار الأوربيون وكل ذوي نفوذ، وكان الغرض لدى مايير مقنين هو تقوية مكانته لدى التجار الأوربيين للحصول على الامتيازات التفضيلية وتعزيز موقعه التجاري، الذي تقوى بالنشاط العقاري في الصويرة ومراكش، حيث سيصبح مقنين أحد أكبر المضاربين في العقار.

    تعززت أواصر مقنين في قلب البلاط السلطاني وكما وصف ذلك الباحث الأمريكي دانييل شروتر « أصبح في وقت قصير الوكيل الذي لا غنى عنه للمغرب في أوربا (…) كان في وسع مقنين أن يتمتع بحرية أكبر في الحركة بأرض المغرب، مما كانت تتيحه آنئذ كثير من دول أوربا.. إن الحيز الأكبر من تجارة المغرب مع أوربا أصبح بيد مقنين..

    مع انتشار الطاعون بالمملكة الشريفة، والذي سمي لخطورة مخلفاته بـ « الوباء الأكبر »، هاجر مايير مقنين المغرب في اتجاه البرتغال، حيث استقر بلشبونة معززاً أنشطته التجارية السابقة، قبل أن يستقر بإنجلترا.. لكنه لم يفقد أبدا حظوته لدى المولى سليمان، وهو في قلب لندن، فقد احتاج السلطان إلى الذخيرة والسلاح لمواجهة القبائل المتمردة ولم يكن مؤهلا للقيام بهذا الأمر سوى مايير مقنين الذي وطد نفوذه في شبكة الوكلاء والتجار الأوربيين، وهكذا سيصبح مقنين الوسيط الأول بين البلاط الملكي وأوربا.. وهنا ستنفجر فضيحة مالية في وجه مقنين جرت عليه غضب المولى سليمان، ذلك أنه وظف الأموال التي أمده بها المخزن لحسابه الخاص وأعلن خدعة إفلاسه تجاريا، استاء المولى سليمان فقبض على عامله على إقليمه الصويرة والقاضي وأمناء الجمارك وأخ مقنين شلومو، وصادر بضائع سفن إنجليزية أرسلها مايير مقنين من لندن إلى الصويرة، فساءت الأحوال بين المخزن والحكومة البريطانية التي كانت تعرف عناد الإمبراطور المغربي، حتى أن عامل طنجة محمد عبد السلام السلاوي سيرد بقوة على رسالة استعطافية للقنصل البريطاني للإفراج عن بضائع السفن الإنجليزية قائلا: « فليكن في علمكم أن مايير بن مقنين هو يَهُودِيُّنا، وأن كل الأموال التي يتاجر بها، هي لبيت مال المخزن »، لكن متاعب مايير مع السلطة المركزية لن تدوم طويلا، فقد التمس أمانا من السلطان المولى سليمان للعودة إلى المغرب، وسيعود إلى نشاطه السابق بمكانته المرموقة.. رغم بعض آثار السمعة السيئة التي غذاها الخيال الإنجليزي عن اليهودي المرابي المراوغ.

    في قلب « الهايدن سكوير » سيقيم مايير مقنين تجارة ناجحة، وسيكسب قلب نخب أوربية وازنة في عالم التجارة، من الإسبان والبرتغاليين والإنجليز، هذه الروابط الاجتماعية ومكانته المرموقة في قلب البلاط المخزني بصفته تاجر السلطان المغربي يجمع بين الثروة والسلطة.. وبرغم إقامته في قلب الأسواق المالية اللندنية، ظل مقنين يستثمر أمواله بالمغرب، في الملاحة والتجارة وفي اقتناء العقارات.

    كان السلاطين المغاربة يفضلون التجار اليهود ليقوموا بدور الوساطة مع أوربا بدل التجار المسيحيين، من جهة لأن التجار اليهود يظلون تحت حماية السلطان، ونفوذهم مستمد من البلاط، في حين أن التعامل مع التجار المسيحيين يؤدي مباشرة إلى المواجهة مع القوى الأجنبية التي تسعى إلى التدخل في المغرب لحماية مصالح تجارها، ومن جهته كان مايير مقنين يستفيد من تركيز التجارة الخارجية للمغرب بيد النخب اليهودية، لأنه يمتلك أقوى النفوذ وأخطر العلاقات وأكبر الشركات، باعتباره مفوضا من قبل القصر السلطاني، ويؤكد ظهير شريف صادر عن المولى سليمان إلى عامل الصويرة، هذا الوضع الاعتباري لمايير مقنين، مما جاء فيه: « نأمر وصيفنا الحاج محمد بن عبد الصادق، أن يبقي التاجر ولد مقنين على ما اعتاده منا من المراعاة والتمييز عن غيره من أهل الذمة، لقيامه بوظائف خدمتنا الشريفة واعتزازه بها، فراع فيه هذا القدر، ولا تترك أحدا يسومه خسفا ».

    لم يكن مايير مقنين مقصراً من جهته، فقد ظل يحافظ على إرسال الهدايا النفيسة إلى السلطان لتجديد بيعته وتعزيز نفوذه، وظلت شركاته تتوسط لاستخلاص الديون والضرائب لفائدة بيت مال المخزن، لذلك فحتى في اللحظة التي أمر فيها المولى سليمان ببناء ملاح لتجميع اليهود، تم استثناء آل مقنين من ذلك باعتبارها من النخبة الحاكمة.

    سلطة مايير ونفوذه ستجعله ممثلا دبلوماسيا للسلطان في أوربا، وهنا كان مقنين يتمتع بقدرة كبيرة على المناورة والمراوغة وصلت حد إدعائه أنه يحوز مطلق التفويض من الخليفة السلطاني، وحديثه المباشر مع الحكومة البريطانية باعتباره ممثل الإمبراطور المغربي، وهنا يروي دانييل شروتر -استنادا إلى وثائق بريطانية رسمية- واقعة طريفة، حول احتيال مايير مقنين، الذي أرسل أسدين من المغرب إلى لندن باعتبارهما هدية من السلطان المولى سليمان إلى الملك جورج الثالث، ليقف البريطانيون على حقيقة أن لا علاقة للسلطان المغربي بالأسدين الذين كانا في ملكية مايير مقنين وأخيه شلومو، ووظفا اسم الإمبراطور المغربي لإبراز حجم مكانتهما في المملكة الشريفة، وبأنه لا غنى للتاج البريطاني عن وساطة مقنين في التجارة كما في الشؤون الدبلوماسية.

    وما يبرز أن مايير مقنين كان يستعمل سلطته ونفوذه لحسابه الخاص، هو إغراء الأطراف الأخرى بالامتيازات التي يمكن أن يحصلوا عليها من خلال وساطته، كما حين رغب المولى سليمان في شراء السفينة « آرثور » في أواخر عام 1808 من بريطانيا، عبر وكيله مايير مقنين الذي كتب إلى الحكومة البريطانية رسالة مما جاء فيها:

    « الفرصة الحالية مواتية للغاية لتمكين الحكومة البريطانية من الحصول على أي امتياز ترغب فيه من صاحب الجلالة الإمبراطور ».. لقد كان اليهودي المغربي مايير يعرف كيف يضع الطعم في الشص.

    كانت لمايير مقنين أوراق اعتماد من طرف البلاط الملكي، تفتح له مثل الكلمة السحرية « سمسم »، كل كنوز العالم الآخر، لكن ذلك لم يكن يمر بدون مخاطر، فوضع الامتياز الذي كان يتحصل للنخبة اليهودية في القصر السلطاني، كان أشبه بميثاق شرف مشترك، لذلك حين كان مايير مقنين يغش باللعب لحسابه الخاص، والتصرف في بيت مال السلطان، كان يعرض نفسه لمخاطر قد تصل إلى حد احتمال مواجهة الموت، وهذا ما حدث في أزمة السفينة « آرثور » التي صنعها الإنجليز وباعوها للمغرب عبر وساطة مايير مقنين، غير أن هذا الأخير كان قد تصرف في جزء من أموال شراء السفينة، وتزامن ذلك مع سوء الأحوال التي عرفتها تجارته، فجر عليه الغضب المخزني، وهذا ما تعكسه رسالة رسمية قاسية اللهجة إلى مايير فيها نفحة تهديدية بارزة، مما جاء فيها:

    « إلى الذمي مايير مقنين الكائن باللوندريز، كيف تسمح لنفسك أيها الساقط اللئيم والتافه الحقير، أنه توجه لك الأمر من سيدنا إلى بر النصارى لدفع نصيب من المال الموجود في ذمتك لسيدنا، وكان عندك أكثر منه بكثير، فمانعت عن الامتثال لأمر سيدنا، وحتى ولو تعلق الأمر بما هو أكثر من ذلك، فالواجب عليك أن تدفع، وتطيع أمر المقام العالي، ولو اقتضى ذلك رهن نفسك، فإن سيدنا يخلصك بعد ذلك، والآن عليك أن تدفع إلى وزير النكليز ما يطلبه، إما بسعر صرف اليوم، أو بسعر الصرف أيام بناء السفينة، ولا تتخلف عن ذلك طرف عين ».

    هنا.. في هذه الفترة الحالكة من العقد الثاني للقرن التاسع عشر، عاش مايير مقنين أسوء أيامه، من جهة جرَّ عليه غضب المخزن، ومن جهة أخرى طارده الدائنون الإنجليز، وبرغم رحيله إلى مرسيليا بفرنسا، طاردته لعنة التجار الإنجليز… لكن بحكم ذكائه المتقد وتمرسه السياسي، فقد عمد مايير إلى نسج علاقة مع الأمير، السلطان القادم إلى الحكم سيدي عبد الرحمان، ومع حاشيته، خاصة حين عين السلطان المولى سليمان المولى عبد الرحمان عاملا على مدينة الصويرة، حيث سيصبح مايير مقنين، الذي وصفه صاحب كتاب « يهودي السلطان » بـ: « الوكيل اليهودي الرئيس للسلطان الجديد.. وربما لم يسبق البثة في تاريخ المغرب، أن استطاع يهودي، التفرد بجمع الكثير من المهام المختلفة والمسؤوليات في قبضته ».

    أصبح مايير مقنين على عهد المولى عبد الرحمان يتوفر على صلاحيات استثنائية، فهو « قنصل وسفير لدى جميع الأمم المسيحية »، والممثل المالي الرئيسي للتجارة المغربية بالخارج، وأصبح صاحب المقام العالي للسلطان، لذلك فرض على كل عمال المخزن تقديم يد المساعدة لمقنين ووضع كل ما يحتاجه رهن إشارته، وسيصبح مايير بموجب ذلك « الرجل الأكثر نفوذا » ويحتل موقع الصدارة ضمن النخبة المهيمنة في البلاط السلطاني منذ عاد إلى المغرب خاصة مع حظوته الكبرى لدى المولى عبد الرحمان، التي منحته حصانة استثنائية..

    الموقع الجديد لمايير خلق له حساداً ومنافسين في إطار الأجهزة المخزنية بحكم تضارب المصالح والنفوذ، لكن ثقة السلطان ظلت تتعزز، وسلطاته تتسع لكن ماضي مايير مقنين وديونه بإنجلترا، وإصرار المولى عبد الرحمان على تعيينه سفيراً لدى الحكومة البريطانية خلق توترا دبلوماسيا منذ 1827، ليعود مايير عام 1833 إلى المغرب إلى مسقط رأسه بمراكش حيث توفي عام 1835.

    المصدر

  • كلفة الملكية في المغرب

    عندما نشرت إحدى المجلات المغربية الصادرة بالفرنسية عام 2OO5 تحقيقا حول أجرة الملك في المغرب، التي قالت إنها لا تتعدى 360 ألف درهم شهريا (أي 36 مليون سنتيم)، علق وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، من منفاه الباريسي في تصريح أدلى به لمجلة تصدر من باريس موجهة للدول الفرانكفونية الإفريقية على هذا الرقم ساخرا بأنه لا يساوي حتى كلفة تنقل الملك من مقر إقامته بالرباطإلى مكتبه بالقصر الملكي بالمشور السعيد بقلب الرباط ! 
    لم يصدر أي بيان أو تصريح رسمي عن الديوان الملكي يؤكد أو ينفي ما كتبته المجلة المغربية، أو ما جاء على لسان الوزير الذي كان يعتبر أقوى رجل في مملكة الملك الراحل الحسن الثاني بعد الملك.

    اليوم نحن أمام أرقام حقيقية، رسمية، ومحينة، وعلنية، إنها أرقام ميزانية القصر الملكي في مشروع قانون ميزانية 2013 التي يمكن الإطلاع عليها على الموقع الإلكتروني لوزارة الاقتصاد والمالية.

    ومن خلال قراءة سريعة لمشروع موازنة الدولة الخاصة بعام 2013، سنجد أن ميزانية القصر تبلغ: 2.576.769.000 درهم، (أي 7 مليون درهم يوميا أو 700 مليون سنتيم يوميا) أي ما يعادل أكثر من ضعف مجموع ميزانية وزارة الثقافة ووزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية (مجموع ميزانية الوزارتين هو1.265.788.000 درهم) . وللمقارنة فمجموع ميزانية وزارة الثقافة هو : 571.063.000 درهم. أما مجموع ميزانية وزارة التضامن فهو: 694.725.000 درهم. وهكذا سنجد أن ميزانية القصر تساوي 4.5 مرات ميزانية وزارة الثقافة و3.7 مرات ميزانية وزارة التضامن.

    وإذا ما دخلنا في التفاصيل فسنجد أن ميزانية القصر مكونة من جزأين: التسيير والتجهيز. وفي جانب التسيير نجد بندا خاصا بالملك يتضمن: القوائم المدنية: 26.292.000 درهم (وهي مخصصة لأجرة الملك وتعويضاته وربما أيضا الأمراء)، ومخصصات السيادة: 517.164.000 درهم (لاتعرف ما هي هذه المخصصات التي تعادل ميزانية وزارة كاملة مثل وزارة الثقافة) . وبالإضافة إلى مخصصات الملك، هناك بند خاص بالبلاط الملكي، يتضمن مصاريف الموظفين والأعوان: 401.522.000 درهم، والمعدات والنفقات المختلفة: 1.500.183.000 درهم. وبالتالي يصبح مجموع ميزانية تسيير البلاط الملكي هو 2.445.161.000 درهم.

    وللمقارنة فقط سنجد أن بند المعدات والنفقات الخاصىة بالقصر الملكي يتجاوز ذلك المخصص لوزارة مهمة مثل وزارة العدل والحريات، والتي لا يتعدى المبلغ المخصص لبند معداتها ونفقاتها المختلفة 321.783.000 درهم. في حين لا تتعدى مخصصات هذا البند في وزارة التجهيز والنقل – وما أدراك ما وزارة التجهيز والنقل – 107.135.000 درهم.

    ولتقريب الصورة أكثر فإن مخصصات المعدات والنفقات المختلفة الخاصة بالبلاط الملكي، تعادل تلك المخصصة لقطاع مهم مثل وزارة الفلاحة والصيد البحري التي تعادل مخصصات هذا البند فيها 1.552.000.000 درهم.

    أما ميزانية التجهيز (أو الاستثمار) الخاصة بالقصر في مشروع ميزانية 2013 فتبلغ
    131.608.000 درهم، في حين تبلغ ميزانية التجهيز في وزارة سيادية مثل وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، التي عليها بناء وتجهيز السفارات والتمثيليات المغربية في الخارج 116.000.000 درهم فقط لاغير. وللمقارنة مع وزارات ذات طابع رمزي واجتماعي نجد أن ميزانية التجهيز في وزارة الثقافة لا تتعدى 216.750.000 درهم، وتصل نفس الميزانية إلى 177.800.000 درهم في وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية.

    إن السؤال هنا يطرح حول الغاية من وجود ميزانية للتجهيز أو الاستثمار داخل ميزانية القصر الملكي، هل يعني ذلك أن القصر يخطط لبناء قصور أو إدارات جديدة تابعة له؟ ما هو معروف في المغرب هو أن « هناك ما يكفي وزيادة » من القصور والإقامات الملكية المنتشرة في جميع المدن والجهات المغربية. وأغلب هذه القصور والإقامات تابعة للولايات والعمالات، وبالتالي فهي في ملك الدولة، هي من يتولى بنيانها وتزيينها وتأثيتها وصيانتها وحراستها. كما أنه لايمكن تصور أن كل هذه الميزانية الخاصة بالتجهيز ستصرف على اقتناء سيارات جديدة، فمرآب سيارات القصر الملكي يزخر بمآت السيارات الفارهة والفاخرة ومن آخر الموديلات وأغلاها وأندرها أيضا..

    طبعا لن تتم الإجابة على أي من هذه الأسئلة، بل ولن تطرح أبدا مثل هذه الأسئلة لا داخل مجلس الحكومة ولاتحت قبة البرلمان ولا على أعمدة الصحافة الرسمية أو الحزبية أو الخاصة. ولن ننتظر أن يرسل رئيس المجلس الأعلى للحسابات قضاته للتدقيق في طرق صرف ميزانية القصر، رغم أن الدستور يحتم عليه مراقبة كيفية صرف جميع ميزانيات الدولة بما فيها ميزانية القصر.

    بل، سنسمع من داخل البرلمان من يطالب بزيادة ميزانية القصر، كما فعل أحد « النواب » المتملقين عند مناقشة ميزانية القصر الخاصة بعام 2012، عندما طالب بالرفع من ميزانية البلاط بدعوى أن « أنشطة » الملك و »تحركاته » تستلزم المزيد من الإنفاق عليها من ميزانية الشعب!
    وبالفعل هناك من سيصدق مثل هذا الكلام بفعل الحضور القوي لأنشطة الملك وتحركاته على شاشات التلفزات الرسمية، لكن ما لايعلمه الكثير من الناس هو أن هذه الأنشطة والتحركات مكلفة جدا، لكن من يتحمل عبئها هي الميزانية العامة للدولة من ميزانية المجالس البلدية والجماعية، وميزانيات الولايات والعمالات، وميزانيات أجهزة الأمن والشرطة والدرك التي ترافقها لضمان سلامتها وأمنها…

    أما من الناحية الدستورية، فإن الفصل 45 ينص على أن للملك قائمة مدنية. وهذا يعني أن مبلغ 26.292.000 درهم هو الوحيد من هذه المصاريف الذي يستند على أساس دستوري، (لأن الدستور لا يتحدث مثلا عن مخصصات السيادة) وهو مبلغ يقارب 1 في المائة من مجموع الميزانية المخصصة للقصر.

    في الوقت الذي يدعو فيه رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران المغاربة إلى شد الحزام ويفرض عليهم زيادات تمس قوتهم اليومي، وفي الوقت الذي يعيش فيه الاقتصاد المغربي حالة من الركود التي تنذر بأزمة خانقة مقبلة، كان ينتظر من الملك أن يعطي إشارة ولو رمزية بخصوص تقليص ميزانية القصر حتى يشعر المواطن الذي لا يجد قوت يومه في القرى والبوادي المنسية، ووراء أحزمة البؤس التي تحيط بالمدن الكبرى، وبعضها لا يبعد كثيرا عن القصور الملكية، بروح التضامن التي تسود المجتمعات في أوقات الأزمات العصيبة ويخضع لها الجميع من الرئيس إلى الغفير ومن الملك إلى الفقير.

    في دولة ملكية مثل اسبانيا، التي يعتبر اقتصادها تاسع أكبر اقتصاد فى العالم حسب الناتج المحلى الإجمالى والخامس فى الاتحاد الاوروبى، وأمام الأزمة الاقتصادية التي تضربها حاليا خرج الملك الإسباني خوان كارلوس على شعبه وأعلن أمام الملأ تنازله طوعا عن جزء من مخصصاته ومخصصات أعضاء العائلة المالكة والعاملين في القصر الملكي أسوة بباقي موظفي الدولة الذين شملهم قرار الحكومة بتخفيض رواتبهم. كما قرر الملك تخفيظ ميزانية بلاطه التي تعد الأضعف من بين ميزانيات الملكيات في العالم. فهي لا تتجاوز 11 مليار سنتيم أو 110 مليون درهم في حين أن مخصصات الملك الاسباني لا تتجاز 300 مليون سنتيم مغربي. لنجد أنفسنا أمام المقارنة المفجعة: ميزانية القصر في المغرب تضاعف ميزانية القصر الملكي الإسباني 24 مرة. وأجرة الملك محمد السادس، تضاعف أجرة الملك خوان كارلوس أزيد من 18 مرة، بينما الاقتصاد الاسباني يعادل 18 مرة الاقتصاد المغربي!

    وحتى بالمقارنة مع أنظمة رئاسية مثل النظام الفرنسي، فإن ميزانية القصر الملكي في المغرب تتجاوز ميزانية قصر الرئاسة « الإليزيه » الفرنسي بضعفين رغم أن الناتج الوطني الخام بفرنسا يتجاوز نظيره المغربي أكثر من 25 مرة!

    لكن حتى هذه المقارنات قد تبدو مجحفة في حق رئيس فرنسا وملك اسبانيا، ليس فقط لأن الملك الاسباني عكس نظيره المغربي لايحكم وإنما يسود، ولكن لأن ملك المغرب بالإضافة إلى أنه يعتبر رئيس الدولة الفعلي « ملكية رآسية » أو « ملكية تنفيذية »، فالأمر سيان، فهو يعد أكبر مستثمر في البلد، وأكبر صاحب ثروة في البلد قدرتها مجلة « فوربز »ّ الأمريكية بنحو 2.5 مليار دولار أمريكي عام 2011 (وطبعا لا يشمل هذا الرقم قيمة القصور والإقامات والضيعات الملكية التي لا يُعرف عددها ولا قيمتها المالية).

    الملكية في المغرب ليست مكلفة ماليا فقط وإنما اقتصاديا وسياسيا بل وحتى رمزيا ومعنويا. فهي مكلفة اقتصاديا بما أن الملك يعتبر هو المستثمر الأول في قطاعات مهمة. وحتى فترة قريبة كانت الاستثمارات الملكية هي المهينة على قطاعات اقتصادية أساسية مثل قطاع الإسمنت، وإنتاج البيرة، والزيوت، والحليب والبيسكويت ومشتقاتهما. ومازالت هذه الاستثمارات تهيمن على قطاع مهمة مثل إنتاج السكر، وتتواجد بقوة في قطاعات الأبناك والتأمين، واستغلال المناجم، وتتطلع إلى التغلغل في قطاعات صاعدة مثل الفندقة والاتصالات والطاقات المتجددة. بالإضافة إلى كل هذا يبقى الملك هو الفلاح الأول في بلده وبالتالي يعتبر هو المستفيد الأول من الإعفاءات الضريبية المطبقة على الفلاحة منذ فترة ما سمي باستقلال المغرب، ومن الدعم المالي المرصود للانتاجات الزراعية والحيوانية.

    ومن الناحية السياسية يبقى الملك وحسب ما ينص عليه الدستور الجديد هو الرئيس الفعلي للجهاز التنفيذي من خلال رآسته لمجلس الوزراء الذي يضع الخطط الاستراتيجية لسياسات الدولة في جميع المجالات بما فيها تلك التي تهيمن عليها الاستثمارات الملكية أو تخطط للاستثمار فيها. بل إن بعض هذه السياسات ترسم ويخطط لها بعيدا عن الحكومة والبرلمان، مثل مشاريع « المخطط الأخضر » الخاص بالفلاحة، ومشروع « المخطط الأزرق » الخاص بتطوير السياحة، ومشروع الطاقات المتجددة… ومؤخرا قام الملك بجولة في دول خليجية للتسويق لمشاريع استثمارية بمليارات الدولارات لم تعرض على الحكومة ولم يصادق عليها البرلمان ولم يتضمنها البرنامج الحكومي!

    في « بيان الكرامة » الذي وقعه مؤخرا سياسيون ومثقفون وإعلاميون وفاعليون من المجتمع المدني، للاحتجاج على الطقوس المذلة التي ترافق حفلات الولاء وتجديد ما يسمى بالبيعة، جاء أن الملكية أصبحت مكلفة حتى من الناحية الرمزية والمعنوية، بما أن تلك الطقوس المذلة لم تعد تهين فقط كرامة من يسارعون طواعية إلى إذلال أنفسهم لها، وإنما باتت تلاحق كرامة وسمعة كل مغربي حيثما وجد.

    الخلاصة أن الملكية في المغرب مكلفة ماديا واقتصاديا وسياسيا ومعنويا.

    الحل هو الثورة، وهي آتية لاريب فيها. 

    نشر في لكم يوم 28 – 10 – 2012
  • المغرب : برَّاد المخزن ونخبة السكر

    عبد العزيز كوكاس

    « العيب ماشي في اللي كيزرع فوق السطح العيب في اللي كيخمَّس عليه » مثل مغربي

    يُحكى والعهدة على الراوي أن باحثا مصريا حضر إلى المغرب بغية إنجاز دراسة حول النظام السياسي، بنياته وإبدالاتها التاريخية، وبعد أن ابتلع كميات كبيرة من الكتب التي تتحدث عن تشكل نظام المخزن في المغرب وعلاقته بالنخب التي تدور في فلكه، وجد نفسه عاجزا عن فك ألغار هذا النظام السياسي الفريد من نوعه، فشكا همه إلى طالب مغربي يجلس بجواره في مكتبة الخزانة العامة بالرباط، لعله يستجلي من ابن البلد بعض أسرار المخزن، وبعد أن خمن الطالب ودبر، أسعفه خياله الواسع فبادر سائلا الشاب المصري:

    – هل تعرف « البرَّاد » المغربي ، ذلك الإبريق الذي يهيء فيه الشاي؟

    – نعم، هذا الذي يشبه العربي، ببطن منتفخ، ورأس فارع، منتصب دوما، وله يد كل من أتى يستعمله ؟!

    – جيد هو ذاك، فالمخزن عندنا يشبه « البراد »!!

    ولما لاحظ استغراب الباحث المصري الذي شَكُل عليه الربط بين البراد والمخزن، أضاف الطالب المغربي مستوضحا:

    – أنت تعرف سنيدة، ذا نوع من السكر تضعه في البراد فيذوب بسرعة، سنيدة ذي هي العنصر وأحرضان، محمد أبيض، فهد يعته، عيسى الورديغي، والتهامي الخياري.. دول ذايبين على طول في المخزن، وفيه كمان سكر مقرط، ذا عبارة عن قطع متوسطة، ذي يلزمها القليل من الوقت لتذوب أيضا في براد الشاي، قطع السكر هذه هي عصمان، عبد العالي بنعمور، علي بلحاج، إسماعيل العلوي، عباس الفاسي… وفيه سكر عندنا جامد قوي نسميه في المغرب بالقالب، ذا يلزمه وقت كثير لكي يذوب كمان…

    القالب ذا هو زي عبد الرحمان اليوسفي، محمد اليازغي، محمد شفيق، نوبير الأموي، عبد المجيد بوزوبع ذول يبدو في البداية عَصِيِّين شواي، بس في الأخير بيذوبو!

    ولما لاحت إمارات الانشراح على المصري أضاف الطالب المغربي:

    – وفيه كمان شمندر ذا ما يصلحش أبدا وضعه مباشرة في البراد لأنه بدون طعم ولا مذاق كمادة خام ومهما كانت درجة الحرارة لن يذوب، ذا يلزمه وقت طويل، ومصنع خاص للتحويل، بس في الأخير بيصير سكر، وبيذوب كمان… الشمندر ذا في نخبتنا هو: بن سعيد آيت يدر، صلاح الوديع، الفقيه البصري…

    ثم هناك سكارين، أي سكر بدون مذاق يستعمله المرضى بالسكر… دول ذايبين على طول بدون مذاق في براد المخزن، دول نسميهم وزراء السيادة: العلوي المدغري، عبد الصادق ربيع ومحمد بنعيسى… وفيه سكر صلب، لا يقبل الذوبان في براد المخزن، ذا فيه أساليب خاصة، مصانع مغربية تخضعه للذوبان القسري، مثل قلعة مكونة، درب مولاي الشريف، تازمامارت… دول مثل بنو هاشم، زعزاع، بنزكري، الساسي، أحمد بنجلون عبد الرحيم برادة، وعبد الرحمان بن عمرو.. دول بيذوبو كمان في براد المخرن بطريقة خاصة، سيلزمها وقت طويل لكن أكيد بيذوبوا.

    10أكتوبر 2002 في أسبوعية الصحيفة

    المصدر

  • المخزن يلغي الاحزاب…الرفيق سعيد الشاوي

    جلسة برلمان 18 يناير 2017

    في جلسة البرلمان لهذا اليوم 18 يناير 2017 صادق البرلمان المخزني بالاجماع على قانون الانضمام الى الاتحاد الافريقي، تحدثوا اليوم نفس اللغة ولو واحد منهم تميز ولو على الاقل من ناحية اللغة ( منهم من استحضر التاريخ ومنهم من استحضر العواطف ،جميعهم تحدثوا لكنهم لم يقولوا شيئا ) جميعهم سقطوا في تناقضات مثيرة للشفقة حين حاولوا ايجاد تفسيرات للوضع الذي وجدوا انفسهم فيه وهذه التناقضات لا يمكن تفسيرها بغياء هذه الاحزاب بل بمخزنيتهم المتجدرة مع الاسف وبعدم قدرتهم على ممارسة قرارهم السياسي المستقل.


    الاحزاب في البرلمان اليوم كانت مثيرة للشفقة كانت كالممثل على خشبة مسرح يدرك جيدا انه فقط ممثل لكنه يحاول ان يتحرر من جلد الممثل ليصبح حقيقيا ويعجز لان قدره ان يكون ممثلا وهو اختار هذه الوظيفة و مرتاح فيها.


    كانت جلسة البرلمان اليوم تاريخية كما سموها ليس لانها ناقشت موضوع الانضمام الى الاتحاد الافريقي وحساسيته بوجود البوليساريو عضوا كامل العضوية فيه ،بل كانت تاريخية لانها اكدت ان المخزن الغى الاحزاب ولم يعد لها وجود فعلي علمي ، تاكد اليوم لمن مازال له درة من الشك ان استمرار المخزن بالتحكم في الحياة السياسية والاقتصادية بالمغرب سيظل الحقل السياسي مغلقا وستظل التعبيرات الاجتماعية المختلفة محجوزة وقاصرة ،ولن تنمو وتتطور الا حركات التطرف والانحراف السياسي.

    اليوم كذلك تاكد ان الاقتصاد هو روح السياسة

    المصدر

  • صراع شباط وبن كيران – الحلقة الأولى – 1

    بقلم : عبدالحق الريكي

    لقد كان لقرار انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة المعبر عنه بقوة خلال آخر اجتماع للمجلس الوطني للحزب بتاريخ 11 ماي 2013 عدة ردود فعل على الساحة السياسية المغربية. أولا تدخل الملك محمد السادس نصف ساعة بعد الإعلان عن الانسحاب للمطالبة باستمرار وزراء الحزب في ممارسة عملهم إلى حين رجوعه إلى أرض الوطن، ثانيا لم يتسرع رئيس الحكومة عبدالإله بن كيران وحزبه، حزب العدالة والتنمية، في اتخاذ قرار نهائي من هذا الانسحاب، ثالثا قامت أبرز الأحزاب الوطنية في الأغلبية والمعارضة وخارج البرلمان بنشر بيانات وتصريحات للتعبير عن مواقفها من هذا القرار، رابعا تصدر هذا الخبر وتداعياته أهم الأخبار والتحاليل في الجرائد الوطنية والدولية وكذا المواقع الإلكترونية.

    أعتقد أن انسحاب حزب الاستقلال خلق نقاشا داخل المغرب لم تعهده بلدنا منذ أمد بعيد، بحيث ما زال الخبر يتصدر أهم الصحف الوطنية والمواقع الإلكترونية للأسبوع الثالث على التوالي، نقاش ساهم فيه زيادة على القادة الحزبيين والنقابيين العديد من الكتاب والباحثين وذلك من زوايا متعددة، سياسية ودستورية واجتماعية واقتصادية.

    كما تم تحليل الأسباب الظاهرة والخفية للقرار وأيضا التطرق إلى مختلف السيناريوهات السياسية والدستورية الممكنة لتجاوز الأزمة الحكومية من خلال إقرار البعض ببقاء حزب الاستقلال داخل الحكومة مع مراجعة التشكيلة الحكومية وتغيير بعض الوزراء وإعادة صياغة البرنامج الحكومي وميثاق الأغلبية، وتلميح البعض الآخر بانسحاب الحزب وتعويضه بأحزاب الأحرار والاتحاد الدستوري، كما ذهب البعض الآخر إلى إمكانية إجراء انتخابات سابقة لأوانها دون إغفال فكرة الحكومة الوطنية.

    بطبيعة الحال الجميع ينتظر تحرك القصر الملكي وإشاراته لتفضيل هذا الحل أو ذاك.

    في انتظار ذلك ما زال النقاش حادا، خاصة بعد قرار الأمين العام لحزب الاستقلال « حميد شباط » القيام بجولات عبر كل تراب الوطن لشرح قرار الانسحاب لأعضاء الحزب وخروج بعض قياديي حزب العدالة والتنمية عن صمتهم والإدلاء بإشارات حول الموضوع لم يصل بعد إلى موقف رسمي ما دام الحزب لم يجمع هيئاته التقريرية ولم يصدر عن أجهزته أي بلاغ رسمي أوقرار واضح.

    أود الاستمرار في المساهمة في هذا النقاش الغني والمفيد – رغم انعكاساته الاقتصادية السلبية – من زاوية الاحتكام إلى الأرقام والإحصائيات واستطلاعات الرأي. أعرف أننا لسنا متعودين على التعامل مع الأرقام على خلاف الغرب حيث استطلاعات الرأي تحتل صدارة الأخبار ويتم تحليلها ومقارنتها من طرف قيادات الأحزاب والحكومات والصحافة والمواطنين كما هو الشأن أيضا لأهم المؤشرات الاقتصادية والمالية التي تكون لها انعكاسات واضحة على البورصات صعودا وهبوطا وأيضا حول الظرفية والتوقعات.

    أسوق مثالين على ما أقول، أولهما يتعلق بفرنسا في الميدان السياسي، حيث نجد رئيس الجمهورية الحالي « فرانسوا هولاند » يتتبع عن كثب استطلاعات الرأي حول شعبيته لدى الفرنسيين وكيف أن موقفهم من رئيسهم عرف تراجعا كبيرا حيث من معدل 60 في المائة في ماي 2012 نزلت شعبية فرنسوا هولاند إلى 25 في المائة في أبريل 2013.  وآخر استطلاع لشهر ماي 2013 سجل ارتفاعا في شعبية فرانسوا هولاند ب 4 نقط من 25 إلى 29 في المائة ورغم ذلك يعتبره جل الملاحظين رقما ضعيفا ما دام 71 في المائة من الفرنسيين مستاءون من رئيسهم.

    ثاني مثال يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية في الميدان الاقتصادي والمالي. لقد سجل مؤشر نسبة البطالة لشهر أبريل من هذه السنة بهذا البلد العملاق مفاجأة سارة غير متوقعة بحيث تم خلال شهر أبريل خلق 165 ألف منصب شغل عوض 138 ألف لشهر مارس 2013 وأكثر من المتوقع الذي كان في حدود 148 ألف. لقد كان لهذا الإنجاز تأثير إيجابي ومباشر على البورصة في أمريكا وفي مختلف دول العالم.

    لقد اعتاد المواطنون والساسة والإعلام في الغرب تتبع وتحليل والانتباه إلى دلالات بعض الأرقام سواء المتعلقة باستطلاع الرأي أو المؤشرات الاقتصادية والمالية كتتبعهم لتقلبات حالة الطقس.

    أعود إلى المغرب حيث التعامل مع الأرقام يبقى محدودا وغالبا غير مرغوب فيه. فإذا كانت أحوال الطقس تستأثر يوما بعد يوم باهتمام المغاربة فإن تداول وتحليل الأرقام ما زال ضعيفا ولم يرق بعد إلى المستوى المطلوب. هناك غياب لاستطلاعات الرأي في الجانب السياسي والاجتماعي كما أن هناك تضارب في الأرقام خاصة الاقتصادية ما بين الحكومة مثلا ومندوبية التخطيط ومرات أخرى بنك المغرب وحتى داخل مؤسسات الحكومة الواحدة كما وقع مؤخرا ما بين وزارة المالية والخزينة العامة.

    رغم ذلك، لا أنفي أن هناك العديد من الأرقام والإحصائيات متداولة يمكن أن تُعِيننا على تحليل واقعنا السياسي واتجاهاته العامة مستعينين بنتائج الانتخابات العامة وانتخابات رؤساء الأحزاب خلال المؤتمرات الحزبية وبعض استطلاعات الرأي الصادرة عن بعض المعاهد المتخصصة أو تلك التي تقوم بها بعض المواقع الإلكترونية.

    أعترف أن البحث عن هذه الأرقام كان مضنيا وعسيرا لغياب معاهد ومواقع رسمية أو خاصة توفر هذه الإحصائيات لكن النتيجة من وجهة نظري المتواضعة كانت مذهلة ودالة على موقف الكتلة الناخبة ومنخرطي الأحزاب والفئات الأكثر تفاعلا مع الأحداث الوطنية على غرار قرار حزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة.

    سأتناول في هذا المقال وبالأرقام الدالة شعبية « بن كيران » و »شباط » على المستوى الشعبي والحزبي والإعلامي، بعيدا عن التصريحات والمواقف السياسية النارية أحيانا لهذا أو ذلك وبعيدا عن الخلفيات الظاهرة أو الخفية. أطلب من القارئ صبرا جميلا حتى النهاية وتفهم الاستعمال الكبير للأرقام لكني أعده أن النتيجة ستكون مذهلة كما ظهرت لي حين كنت بصدد تجميع الأرقام والمعطيات.

    لن نعود لأرقام انتخابات 25 يناير 2011 المعروفة ولكن لبعض تفاصيلها التي لم يتم التطرق لها بعمق في حينها. يعرف الجميع أن حزب « بن كيران » حصل على الرتبة الأولى ب 107 مقعدا وما يفوق مليون صوت في الوقت الذي حصل حزب « شباط » على الرتبة الثانية ب 60 مقعدا و560 ألف صوت والفرق كبير في الأصوات ما بين الحزبين. لكن هناك تفاصيل أكثر أهمية يجب الرجوع إليها وتحليلها.

    هكذا نجد أن حزب « بن كيران » هو الحزب الوحيد الذي أكد حضوره في أهم المدن المغربية حيث فازت لوائحه بمقعدين أو أكثر في 23 دائرة انتخابية (ثلاث مقاعد بدائرة طنجة-أصيلة ومقعدين بكل من دائرة وجدة أنجاد – المنارة – المدينة سيدي يوسف بن علي – الدارالبيضاء أنفا – الفداء درب السلطان – عين السبع الحي المحمدي – عين الشق – الحي الحسني – سيدي البرنوصي – المحمدية – القنيطرة – الرباط المحيط – الصخيرات تمارة – سلا المدينة – فاس الجنوبية – فاس الشمالية – مكناس – إنزكان أيت ملول – الراشيدية – أكادير إدوانتنان – تطوان وخريبكة) في الوقت الذي فازت لوائح حزب الاستقلال بأكثر من مقعدين سوى في دائرتين (العيون وتارودانت الجنوبية) وحزب وحيد آخر فازت إحدى لوائحه بمقعدين هو الأصالة والمعاصرة بدائرة الرحامنة مسقط رأس مستشار الملك فؤاد علي الهمة.

    الجميع يعلم صعوبة حصول لائحة على أكثر من مقعد أخذا بعين الاعتبار التقطيع الانتخابي ونمط الاقتراع. لكن النتيجة ظاهرة للعيان، لوائح حزب « بن كيران » فازت بأكثر من مقعد في 23 دائرة انتخابية أي في 25 في المائة من الدوائر المحلية البالغ عددها 92 دائرة على صعيد التراب الوطني وحزب الاستقلال في دائرتين فقط أي بمعدل 2 في المائة.

    كما نستشف من الأرقام أن حزب « بن كيران » حافظ على قوته في معاقله التقليدية كالشمال في طنجة وتطوان، والعدوتين الرباط وسلا، والمدينة الاقتصادية الدارالبيضاء والجهة الفلاحية السياحية الأمازيغية سوس ماسة درعة واستطاع الولوج إلى الوجهة السياحية رقم 1 بالمغرب، مدينة مراكش، حيث استطاع أن يفوز بها ب 5 مقاعد من أصل 9 في دوائرها الثلاث في حين لم يفز حزب الاستقلال بأي مقعد في مدينة زعيم تاريخي للحزب ووجه مشرف ومرموق هو الأستاذ محمد بوستة.

    أما بالدارالبيضاء التي تمثل جزءا مهما من ساكنة المغرب واقتصاده فقد حصل حزب « بن كيران » على 17 مقعد من أصل 34 مقعد في حين حصل حزب « شباط » على 5 مقاعد واحتل بعض وزراءه السابقين وأعضاء مكتبه التنفيذي والمقربين من « شباط »، رغم انتخابهم، على المراتب الأخيرة كما هو الشأن بالنسبة ل »ياسمينة بادو » بالمرتبة الثالثة والأخيرة في دائرتها و »عبدالكريم غلاب » بالمرتبة الرابعة والأخيرة في دائرته.

    أما المثير في الأمر هو كون حزب الاستقلال لم يفز بأي مقعد من ضمن 7 مقاعد المتبارى حولها بالعاصمة الرباط في حين فاز مرشحا « بن كيران » ب 3 مقاعد.

    أما بمدن طنجة وتطوان فاز أنصار « بن كيران » بنصف المقاعد العشرة المتبارى حولها وفريق شباط بصفر.

    أليست هذه أرقاما مذهلة ؟!… لنستمر…

    ولنقترب الآن من النتائج المحصل عليها من طرف « عبدالإله بن كيران » الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة و »حميد شباط » الأمين العام لحزب الاستقلال « المشارك – المنسحب » من الحكومة على صعيد دوائرهما.

    ترشح « بن كيران » في دائرة سلا المدينة واستطاعت لائحته الفوز بمقعدين من أصل أربعة ب 27.602 صوت في الوقت الذي حصل الفائز الثالث على 9.046 صوت والرابع على 7.180 صوت أما مرشح حزب الاستقلال فلم يستطع الحصول سوى على 6.551 صوت لم تكن كافية لانتخابه. إذن « بن كيران » حصل على الرتبة الأولى وعلى مقعدين في دائرته الانتخابية وبفارق كبير من الأصوات بالنسبة لبقية الأحزاب المرشحة بالدائرة.

    هل « شباط » نحى إلى نفس نتيجة « بن كيران » ؟ لا… لكن الأهم هو تحليل ما وقع في مدينة فاس التي يعتبرها « حميد شباط »، منذ زمان، معقله السياسي والانتخابي وأرض انطلاقه لفتوحات وطنية.

    إن من الأمور التي حددت استراتيجية « شباط » الصدامية تجاه « بن كيران » وحزبه هي أولا ما وقع يوم 25 يناير 2011 بمدينة فاس.

    لنبدأ بالدائرة التي ترشح فيها « حميد شباط » وهي دائرة « فاس الشمالية » وعدد مقاعدها أربعة. هل فاز زعيم حزب الاستقلال بالمرتبة الأولى؟ لا. هل فازت لائحته بمقعدين ؟ لا. بل كان نصيبه المرتبة الثالثة حيث حصل حزب غريمه « بن كيران » على مقعدين و25.136 صوت في حين حصل « شباط » على 15.703 صوت بفارق 9.433 صوت !!

    هذه كانت الصدمة الأولى لشباط، نفور منتخبي فاس من عمدتهم لسنين عديدة وفوز مرشح حزب العدالة والتنمية الذي لا يتقلد أي موقع قيادي وطني في الحزب. هل سمعتم من قبل عن الطبيب « عمر فاسي فهري » ؟ أعتقد أن الكثيرين خارج مدينة فاس لا يعرفونه. إنه مرشح العدالة والتنمية الذي فاز على « حميد شباط » في عقر معقله الانتخابي.

    مشاكل « شباط » لم تتوقف عند هذا الحد في مدينته فاس حيث نجد تأكيد هبوط شعبيته في الدائرة الأخرى لمدينة فاس وهي دائرة « فاس الجنوبية » حيث حصل أنصار « بن كيران » على مقعدين من ضمن المقاعد الأربعة ب 29.666 صوت في حين حصل مرشح « شباط » على المقعد الرابع ب 10.058 صوت أي بفارق 19.608 صوت !! 

    تمعنوا جيدا في هذه الأرقام. في المعقل الانتخابي ل »شباط »، أي مدينة فاس، نجد أن حزب « بن كيران » حصل على ما مجموعه 45.802 صوت وحزب « شباط » على 25.761 صوت بفارق كبير جدا يتجاوز 20.041 صوت. هذا المعطى الرقمي يؤرق ليالي « شباط » ولا يتركه ينام وهو متواجد في كل استراتيجياته ومواقفه من « بن كيران » وحزبه.

    أعتقد جازما أن « شباط » لن يقبل بإجراء الانتخابات الجماعية حتى يجد مخرجا لهذا المشكل الكبير، بحيث لا يمكن ل »شباط » أن يفقد معقله الانتخابي خلال الانتخابات الجماعية وهو في موقعه الجديد كقائد وزعيم جديد لحزب الاستقلال.

    إذا ما هو الحل؟

    الحل بسيط. إما الاتفاق المسبق مع « بن كيران » في اتجاه تمكين « شباط » من عمودية فاس أو الطوفان… بمعنى الأرض المحروقة، عرقلة عمل الحكومة أو تأزيمها، استهداف « بن كيران » شخصيا وحزبه وتأخير الانتخابات وهو معطى تسرب إلى الصحافة من كون « شباط » يريد تأجيل الانتخابات إلى 2015.

    والحقيقة أن أطراف داخل الدولة وتقريبا جل الأحزاب تتهرب من إجراء الانتخابات الجماعية في الوقت الراهن. لأن هناك إجماع على كون حزب « بن كيران » سيأتي من خلالها على الأخضر واليابس. ألم أقل لكم أن الأرقام مذهلة ما بين « بن كيران » و »شباط » ؟

    هناك المزيد من الأرقام… أرقام أخرى مذهلة ودالة حول الخلفيات الحقيقية للصراع الدائر اليوم ما بين « شباط » و »بن كيران ». تحدثنا سابقا عن الشرعية الانتخابية الشعبية للغريمين من خلال صناديق الاقتراع وسنتحدث في المقال المقبل على شرعية أخرى تتجلى في الشرعية الحزبية كما سنعرج على المحطات الانتخابية الجزئية وخاصة تلك المعركة الفاصلة ما بين مرحلتين، مرحلة التعايش ومرحلة الصراع المفتوح ما بين « شباط » و »بن كيران » ألا وهي معركة « دائرة الموت » بإنزكان أيت ملول.

    بقلم : عبدالحق الريكي

    الرباط، 27 ماي 2013

  • هل سيختار محمد السادس التغيير « طوعا » أم قسرا

    ما من شك، أن أمزجة الحاكمين في المغرب، وعلى رأسهم الملك محمد السادس، مُتعكِّرة إلى أسوأ الدرجات. خلال هذه الأيام.. كيف لا وهُم يُعاينون كراسي حُكم وعروش ومصالح مرتبطة بها تتزلزل وتتبدد من حواليهم.. « زين العابدين بنعلي » و »محمد حسني مبارك » أصبحا أثرا بعد عين، ونظاميهما البوليسيان القمعيان، يتبددان يوما على صدر يوم، عبر مختلف أركانهما اللذين أحكما بهما القبضة على مجتمعيهما لعقود طويلة..

    الديكتاتور العقيد القذافي تُطارده بنادق الثوار وطائرات تحالف النيتو، بينما يختفي هو في « جحر » باب العزيزية، مثل أي فأر خرافي بشع.. وليس له في نهاية المطاف القريب، سوى شرف الموت منتحرا، أو بهذلة الإعتقال فالمحاكمة..

    أما حاكم اليمن الأوحد علي عبد الله (غير) صالح فيتردد، الفينة بعد الفينة، بين ترك منصب الرئاسة أو الإحتفاظ به.. ومَنْ يستطيع ترك ثدي السلطة الحلو والثر طوعا، بعدما ظل في فمه لثلاثة عقود من الزمن، بلا حسيب ولا رقيب؟..

    بشار الأسد الذي ورث سلطة مطلقة عن أبيه حافظ الأسد يُواجه انتفاضات المدن السورية، وقد عيل صبر محكوميه من بطش آل العلويين البعثيين.. في الأردن تسير الأمور على نفس إيقاع الإحتجاج، والأفق تحييد حكم فاسد نفذ كل الصبر على تفاهاته القاتلة.. والأكيد أن باقي الملوك والرؤساء العرب بللوا لحاهم في انتظار أن يمر عليهم حلاق وسخ الديكتاتورية والطغيان، إنهم يعرفون أنها مسألة وقت ليس إلاَّ. فقد أنذرتهم تقارير مؤسسات دولية أن الحول قد لا ينقضي عليهم، حتى يجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها، مطرودين من نعيم جنات « الخُلد » في الحكم، هاربين إلى أحد أصقاع الدنيا مُلاحقين بملفات تجاوزاتهم وسرقاتهم، وباقي الجرائم التي لا تتوانى أجهزة القضاء، المستقلة حقا وليس ادعاء، عن مُلاحقة مُقترفيها، وإنزال أقصى العقوبات بهم (لقد رأينا مؤخرا كيف توبع وحُكم على الرئيس الإسرائيلي الأسبق « موشي كاتساف » بالسجن عامين في جريمة اغتصاب امرأة فكيف بالحكام العرب اللذين اغتصبوا مئات الملايين من شعوبهم؟) حتى يكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم.

    في المغرب يقول الملك وحلقة المتنفذين والمنتفعين من حوله، أن « المغرب لا يُشبه البلدان العربية التي تعرف انتفاضات صريحة ضد حُكامها مُعمدة بهذه الكلمة الصارمة الباترة: ارحل ».. مُحوقلين في غيرما وجل أن الملكية في المغرب ضاربة في قلوب المغاربة أبا عن جد (ربما يقصدون أن ذلك من أثر الخوف الشديد) وبالتالي فلن يصل الأمر إلى حد طرد الملك والنظام الملكي من المغرب.

    نفس الشىء تقريبا، قاله الرئيس حسني مُبارك وهو يُعاين طرد زميله الرئيس التونسي « زين العابدين بنعلي » من الحكم وخروجه هاربا من بلاده كأي مجرم جبان. ومع ذلك لم ينقض شهر حتى وجد نفسه مُواجها بنفس المصير. كما أن القذافي قال نفس الشىء عن مبارك وبنعلي.. إنه وضع مأساوي وساخر في ذات الآن، يشبه ذاك الذي لإمرء يُعاين انتشار طاعون مرض مُعد ويظل حتى آخر لحظة من حالة عدم الإصابة يردد: الجميع سيُصابون بالطاعون ما عدا أنا.. وإذا سألته: ما الذي يجعلك تجزم بهذا؟ يقول لك: أنا متأكد من ذلك.

    الملك محمد السادس « متأكد » أنه غير معني بما يحدث من حوله من زلازل تهز بعنف أركان كراسي الحكم والعروش، هو « متأكد » أن الشعب المغربي يُحبه حبا جما، وما خروج الآلاف ثم الملايين رافعين عقيراهم وسواعدهم منددين بالفساد والطغيان، سوى مؤامرات خارجية حاقدة تصطاد في المياه العكرة.. وفق هذا المنطق « الواثق » جاء خطاب تاسع مارس متعاليا على المحكومين، باعتبارهم ما زالوا في حاجة إلى مَن يُفصِّلُ لهم الدستور على مقاسات وعيهم كما يُفصِّل الأب السروال لإبنه. وليس أن « يُفصلوا » هم أنفسهم مقاس شكل ومضمون الحكم، من خلال هيئة تأسيسية منتخبة، بعيدا عن وصاية حاكم مُطلق « مُقدس » يفعل بمصائرهم وأرزاقهم ما يشاء.

    لن يفهم أبدا حاكم مُطلق مثل محمد السادس، أن الأوان قد أزف، على شكل ومضمون حُكم ورثه عن ملك أوثوقراطي بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. لن يفهم أبدا كيف أن شباب عشرين فبراير خرجوا مرة أخرى إلى الشارع يوم 20 مارس، ليُعبروا عن رفضهم لدستور « موعود » ممنوح قال به هو نفسه.. كيف له أن يفهم وثمة مَن يقول له من جحافل المُتنفذين المُحيطين به: إياكُم يا صاحب الجلالة أن تُعطوا لرعاياكم أكثر مما يجب أن يُعطوا..

    إنه نفس المنطق، في شكل مُنحدر بلا قرار، تنزل إليه أنظمة الحكم الديكتاتورية رويدا رويدا ثم حثيثا.. صحيح إن المتظاهرين المغاربة لم يرفعوا بعد شعار رحيل الملك والملكية، واكتفوا بالمُطالبة برحيل الفساد ومُفسدين من بينهم « منير الماجيدي » و « فؤاد علي الهمة » و « إلياس العماري » و غيرهم. لكن مَن يكون هؤلاء في نهاية المطاف؟ أليسوا أصدقاء وخلان الملك محمد السادس.. وحينما يرفض الناس أصدقاء الحاكم وخلانه (المستمدون نُفوذهم وجبروتهم، وبالتالي فسادهم وإفسادهم للشأن العام من علاقاتهم بالحاكم) فإنما يرفضون الحاكم نفسه، فهل يعي هذا الأخير هذه الحقيقة البديهية؟

    لنقل أن ثمة في دار المخزن تردد وحيرة مُقيمان.. لا أحد يعرف « فين يعطي الراس » هل اتجاه استباق عناصر التغيير بقرارات ملموسة، من قبيل حل الحكومة والبرلمان والدعوة لإنتخابات سابقة لأوانها، تُعيد كل شىء من أوله على أسس جديدة متينة، كما يُطالب بذلك شباب 20 فبراير، متيمنين بالثورات المظفرة في أكثر من بلد عربي؟ أم المُراوحة في المكان في انتظار ما تأتي به الأيام من مُستجدات قد تحمل سراب خلاص أو نهاية بئيسة؟

    إنَّ أسوأ وضع قد يجد فيه المرء نفسه، هو ذاك الذي لا يستطيع فيه لا التحرك أو البقاء حيث هو، بينما أمر جلل سينزل به، مثل جلمود صخر يُحدق من عِلّ، كما في أحلام الكوابيس.

    ينقسم نساء ورجالات الدولة من رؤساء وملوك ووزراء وزعماء أحزاب وعشائر.. إلخ إلى نوع رُؤيوي (وهذه فصيلة نادرة جدا جدا) ونوع متوفر مثل أعداد البشر في جمهورية الصين الشعبية، ونعني بهم المسؤولون العاديون الذين يعيشون يومهم ولا ينظرون لغدهم.. النوع الأول يحدس التغيير القادم قبل أن يحدث، فيسبقه باتخاذ قرارات مصيرية، مثلما فعل الرئيس « ميكاييل غورباتشوف » في ما كان يُسمى بالإتحاد السوفياتي، حينما اعتمد سياسة « الغلاسينوست » (الشفافية) بعدما وقف على درك الإنهيار والفساد الذي وصل إليه الحزب الشيوعي الحاكم في بلاده.. وبالرغم من أن السياسة الإصلاحية التي اعتمدها « غورباتشوف » في بلاده ثمانينات القرن الماضي، جرت ويلات عديدة أخطرها تفكك امبراطورية بأكملها وانفصال أطرافها التي كانت موصولة بها قسرا، وأهونها انتشار حالة الفوضى في البلاد، وهيمنة المافيات المتخصصة في تجارة حالات الحرب والفوضى.. وفداحة الثمن الذي دفعه أفراد المجتمع، كما في كل تحول من ذلك الحجم.. فإن ذلك كان أهون من اندلاع حرب أهلية بلا بداية ولا نهاية.. فكان المرور الذكي سنة 1991 من الفيديرالية الشيوعية الشمولية للإتحاد السوفياتي، في آخر نسخة لها مع « غورباتشوف » إلى الرقعة القومية الروسية مع « بوريس يلتسين ».. وما زال تاريخ التحول يُسَطَّر حتى هذه اللحظات، لتمر بلاد « تولستوي » و « ليرمنتوف » من الشمولية الشيوعية إلى الليبيرالية على الطريقة الروسية.. ثمة حُكام رؤيويون قلائل آخرين مثل ملك إسبانيا « خوان كارلوس » الذي وقف في وجوه الجنرالات المكشرة، ما بعد « فرانكو » سنة 1975 ونقل بلاده من حكم الديكتاتورية العسكرية إلى الأغلبية الشعبية، زاهدا في سلطاته الملكية المُطلقة..

    إنهم رجال السياسة الرؤيويون النادرون جدا، أما « الواقعيون » فهم « أكثر من الهم على القلب » بتعبير المصريين والمصريات، ويا له من هَمّ قاتل مُعطل لأمم بأسرها.

    لن نُجانب الحقيقة إذا قلنا أننا في المغرب نرزح تحت هذا الضرب من الحكم « الواقعي » حتى النخاع.. حيث يُراوح نظام الحكم مكانه في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي.. مُفلتا على البلاد والعباد، لحظات تاريخية للتغيير من حال الجمود والفساد والتخلف، أي السير في الإتجاه الخلفي للتاريخ بدلا من قُذُمِه.. وسائر موبقات الحكم الشمولي، واحدة من تلك اللحظات التاريخية، كانت سنة 1999 حين رحيل واحد من أعتى الحكام الديكتاريين في القرن العشرين، ونعني به الحسن الثاني.. كان بالإمكان « تدشين » تحول ديموقراطي ضمن ملكية « حداثية » حقا وليس ادعاء.. بدلا من ذلك تم اختيار نهج سياسة الوجهين المقيتة: العصا والجزرة، والنتيجة مخزن جديد، يأتي على الزرع والضرع بأشرس مما كان عليه الأمر مع الحسن الثاني ومخزنه (الثروات التي راكمها محمد السادس وأصدقاؤه تفوق ما كان للحسن الثاني ومُتنفذيه، إذا أخذنا بعين الإعتبار ما ورثه الإبن عن أبيه وأضاف إليه في ظرف أحد عشرة سنة، وأن أصدقاءه – أي الإبن- يستثمرون في جل قطاعات تُزاوج بين « الأصالة والمُعاصرة »).. النتيجة كذلك قوانين للتضييق على المجتمع (قانون الإرهاب) وتكميم للصحافة.. وتمييع المشهد السياسي بفبركة حزب ملكي ب « زعامة » صديق حميم للملك.. وغيرها من الأمور التي أفادت وتفيد لسان حال ملك وكأنه يقول: « خليوني ندير لي بغيت »..

    إذن ها هي ذي عجلات التاريخ تغد الخطى حثيثا على إيقاع ارتفاع الحناجر والسواعد في اكثر من بلد عربي، لتدك أنظمة القهر والطغيان.. حيث أطل زمن الشعوب وأفل ذاك الذي كان للحكام.. وهو ما يعني أن إيقاع التغيير يتسارع. إذ ثمة سيف الزمن مصلتا فوق رؤوس الحكام العرب، فإما أن يُسلموا السلطات لشعوبهم، لتحكم نفسها بنفسها وِفق دساتير وأنظمة حكم ديموقراطية أو يرحلوا صاغرين مذلولين هاربين كأتفه المجرمين طرا؟

    ماذا سيختار محمد السادس؟ أم تُراه سيظل مترددا حتى ينزل الحجر فوق الرأس..

    مصطفى حيران

    المصدر08/04/2011  

  • ما هو المخزن؟ هل هو السطافيط.. هل هو تازمامارت.. أم عندما تكون ملكة بريطانيا لوحدها في المنصة؟

    المغاربة يعرفون جيدا ما هو المخزن. ومنذ أيام الصبا الأولى، وخلال حملات لاراف الشهيرة، كان المغاربة يصرخون في بعضهم البعض «اهرب اهرب.. المخزن المخزن»، فأصبح المخزن هو حمل المواطنين في سيارة القايدة طامو، وهي السطافيط حاليا، وإفراغهم في جوف الكوميساريات في منتصف الليل بلا سبب. 

    مع مرور الوقت، أصبح المغاربة يفرقون بين المخزن وسيارة السطافيط، وأصبح المخزن في نظرهم هو صورة الموكب الملكي على التلفزيون وصوت المذيع مصطفى العلوي.


    الباعة المتجولون يرون أن المخزن هو أفراد القوات المساعدة الذين يطاردونهم في الشوارع ويتفاوضون معهم أحيانا. إن المخزن في نظرهم ليس سيئا جدا لأنه في الوقت الذي يلوح فيه بالعصا، فإنه يمد نحوهم الجزرة، وغالبا ما يحدث تفاهم.
    المخزن في نظر العسكريين الذين شاركوا في الانقلابات العسكرية يعني تازمامارت والموت البطيء مثل فئران في أقبية مرمية في جوف الصحراء. إنهم أفضل من عرف قيمة المخزن وصولته.


    المعتقلون السياسيون السابقون رأوا المخزن بوضوح في درب مولاي الشريف وقلعة مكونة ودار بريشة وغيرها من منازل الضيافة المخزنية.


    أحمد الدغرني، زعيم الحزب الديمقراطي الأمازيغي، يرى أن المخزن هو العرب الذين جاؤوا من شبه الجزيرة العربية واحتلوا المغرب.


    في العهد الجديد أصبحت كلمة المخزن تعني أشياء واسعة وفضفاضة. فالمخزن لم يعد ذلك النظام العتيق الذي يضم حراس المعبد وصقور النظام وخليطا من الإقطاعيين واليمينيين وقياد البوادي وأعيان القبائل، بل أصبح أيضا مزيجا من الاتحاد الدستوري والاشتراكيين والتجمع الوطني للأحرار واليساريين المتطرفين والحزب الوطني الديمقراطي والإسلاميين والماركسيين اللينينيين والحركة الشعبية والمناضلين الجذريين والبورجوازية العفنة ومنظمة 23 مارس والعائلات الفاسية والرباطية العريقة ومنظمة إلى الأمام وقدماء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وجمعيات السهول والأنهار. إن المخزن في المغرب يعرف كيف يجدد نفسه ويرتوي من الدماء الشابة لكي لا يموت. المخزن اليوم جسد تختلط فيه كل الدماء. في الماضي كان الكثيرون يتمنون أن يتفرق دم المخزن بين القبائل، واليوم اجتمعت دماء القبائل في جسد المخزن.


    جيران المغرب يفهمون المخزن بطريقة مختلفة. الجزائريون كانوا يعتقدون أن المخزن هو الحسن الثاني، وعندما مات صاروا يعتقدون أن المخزن هو أي شيء يوجد وراء مدينة وجدة.
    التونسيون يعتقدون أن المخزن هو السبب وراء هزيمة المغرب في المباراة النهائية لكأس إفريقيا للأمم في تونس سنة 2004، وهو أيضا السبب في إقصاء المغرب من مونديال ألمانيا أمام تونس أيضا. هذا على الأقل ما يعتقده أفراد شرطة مطار تونس العاصمة الذين كان بعضهم يواسون الجمهور المغربي قائلين إن المخزن في المغرب صعب واللاعبون يتأثرون بذلك.


    جيراننا الإسبان، الذين لا يبعدون عنا أكثر من 14 كيلومترا، عندهم فهم خاص للمخزن. المثقفون الإسبان يعتقدون أن كلمة مخزن تعني الشرطة الدينية أو مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل تلك الموجودة في السعودية، أي أن مهمة المخزن المغربي هي إغلاق الحوانيت أوقات الصلاة ومراقبة الشباب العابث والضرب على مؤخرات الفتيات المتبرجات، وعلى هذا الأساس فإن مهمة المخزن المغربي ستكون مرهقة جدا.
    الإسبان العاديون يخلطون بين المخزن والهجرة السرية والمخدرات والصيد البحري، والإسبان الذين يعيشون في المغرب غالبا ما يخلطون بين المخزن وخادمات البيوت. وعندما يجتمع إسبانيان في المغرب فإن حديثهما لا بد أن يدور حول انتقاد الخادمات والنظام السياسي في وقت واحد.


    في فرنسا يفهمون المخزن بطريقة أفضل، أي أنهم أولئك الناس الشداد الغلاظ الذين دربهم ليوطي على ضبط النظام والأمن، ومازالوا يقومون بذلك بكثير من الوفاء والإتقان.
    ملكة إنجلترا تفهم المخزن حسب ما عاشته خلال زيارتها للمغرب. لقد استضافها الملك الحسن الثاني إلى حفل شيّق به فرقة أحواش، وتركها جالسة لوحدها ونزل من المنصة ليقترب من الفرقة الموسيقية التي كانت ترقص وتعزف قرب المسبح، ليبيّن لهاقربه من الشعب، لكنه تعرض لانتقادات حادة من طرف الصحافة البريطانية، لذلك فإن الإنجليز عندما يسمعون كلمة مخزن فإنهم يعتقدون أن معناها هو أن تكون ملكتهم وحيدة في بلد اسمه المغرب.

    المصدر 

  • في مفهوم المخزن المغربي: الأصول والاتجاهات

    أولا- المخزن: الأصول وتطور الدلالات

    احتل مفهوم المخزن مكانة مركزية في الدراسات التاريخية المهتمة بالدولة المغربية وتطورها، أجنبية كانت أم وطنية. الشيء الذي عدد من اتجاهات ومقاربات دراسة هذا المفهوم.

    إلا أن تعدد تلك الدراسات لم يحل إشكالية المفهوم الذي ما يزال ينتابه بعض الغموض، إذ لم يتفق الباحثون إلا على المفهوم اللغوي للمخزن الذي يدل على المكان الذي كانت تدخر فيه الذخائر المختلفة من أسلحة وكل ما هو موجه لبيت المال من زكوات وأعشار وغيرها… والأصل اللغوي للكلمة هو فعل “خَزن” الذي يحمل معنى الإخفاء والحفظ.

    وقد طُرحت أسئلة مختلفة من قبيل: ما حقيقة المخزن؟ ما الذي يكون المخزن: هل الهياكل الإدارية المكونة للدولة أم الأشخاص الذين يديرون شؤونها؟ ثم ألا يمكن أن نختزل المخزن في شخص السلطان؟ أم إن المخزن هو ذالك الأسلوب والآليات التي تمر عبرها السلطة من قمة الهرم إلى قاعدته؟ أليس المخزن نتاج ذهنية شعبية موروثة عن الخوف من سلطة الحاكم (أو ممثليه) وبطشهما؟ وأخيرا هل اتخذ هذا المفهوم معنى ثابتا أم اتخذ صورة المتغيرات بتغير الأحوال والظروف؟

    اختلف الباحثون في تاريخ بداية تداول هذا المصطلح في المغرب. ففي الوقت الذي أرجع فيه الباحث محمد الكلاوي تاريخ ظهور “المخزن” كمصطلح فعلي يعبر عن الدولة إلى عهد الدولة الموحدية، ذهب الفرنسي ميشو بيلير إلى أن الدولة المرابطية كانت أول من وظفت مصطلح “المخزن” في التاريخ المغربي.

    وقد كان من خصائص المخزن المرابطي:

    – غلبة المعيار القبلي في توظيف الطاقم السياسي المركزي.

    – غلبة الطابع العسكري.

    – تسرب العنصر الأندلسي إلى دواليب الدولة.

    وغلبة الطابع القبلي على “المخزن” المرابطي ثم الموحدي جعله يظهر كأداة “قمعية” تمتلكها قبيلة لقمع القبائل الأخرى قصد استخلاص الضرائب والتمتع بملذات السلطة.

    وهكذا، كان بمجرد اندحار الأسرة الحاكمة تختفي معها كل المكونات البشرية التي كانت تشكل المخزن، حيث تتعرض للتصفية إما بحكم انتمائها القبلي أو تحالفها مع الأسرة الحاكمة.

    لكن بصعود المرينيين إلى السلطة، عرف المخزن تحولا كبيرا في تكوينه وتسييره نتيجة عدة عوامل: هيكلية وخارجية وذاتية.

    وقد اقتضى الإجماع البشري في ظل المجتمع المغربي القبلي، وجود حكم وإرادة نابعتين من التركيبة القبلية نفسها. ففي اللغة الأمازيغية توجد إلى يومنا هذا بعض الأسماء والمصطلحات التي تفيد الحاجة إلى الأمن الجماعي، ومنها لفظ “أكدير”، “اغرم”، “أمغار”، و”أكليد”. ولعل في دلالة هذه الألفاظ ما يفيد أن هيئات ممركزة قد وجدت في التشكيلة المغربية منذ القدم.

    وبتجاوزنا للدلالات اللغوية ذات الأبعاد المكانية لمفهوم “المخزن”، نجد أن هذا المفهوم عرف تدرجا في دلالته العامة قبل أن يستقر في مفهومه كمؤسسة للحكم.

    وهكذا كانت هذه الكلمة “المخزن” تطلق في مجموع أرض المغرب على هيئة إدارية وتراتيب اجتماعية، وعلى سلوك ومراسيم، أو بعبارة جامعة كان المخزن سيفا وقلما نما وتطور في كل دولة وإمارة، وكان يتكون من ثلاث جماعات كانت تختلف في حجمها وقوه نفوذها:

    – الجماعة الأولى ضيقة جدا وتنحصر أحيانا في شخصين أو ثلاثة باسم وزير أو حاجب، ويشترط في حمل هذه الصفة والانتماء لهذه الجماعة أن يكون المرء ذا نفوذ مجتمعي والإخلاص في خدمة السلطة .

    – الجماعة الثانية تشكل صلة وصل بين الفئة الأولى وبقية المجتمع، وتمثلها فئة الكتاب المكلفين بتحرير الرسائل المعبرة عن سياسة الدولة وترجمتها إلى لغة رسمية مضبوطة.

    – الجماعة الثالثة: كانت مكلفة بتنفيذ الأوامر بتسخير مختلف الوسائل المالية والعسكرية اللازمة لذلك، ويتكلف بذالك أصحاب الأعمال والأشغال.

    هكذا يتحدد معنى “المخزن” خلال الحقبة الوسيطية من خلال ممارسة الوظائف الثلاثة: الوزارة كمخطط، الكتابة كمبين ومعلن، وأصحاب الأعمال كمنفذين.

    ولكن مع مرور الأيام عرف هذا المعنى تحولات، فلم يلبث أن انفصل المخزن عن المجتمع واختص مجموعات معينة أهمها الوصفان والموالي ثم الأعراب الهلاليون، وأخيرا المهاجرون الأندلسيين، فأصبحت حياة الدولة تتلخص في نوعية العلاقات التي تربط هذه المجموعات فيما بينها. فيما كانت تنعكس المعضلات التي برزت ثم تفاقمت، وجرت الدول إلى الانحلال والاندثار، وهي التي حددها العروي في معضلات “الجباية والجيش والإدارة…”.

    وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبح المخزن يعني السلطان وحكومته وإدارته، وهي الفترة التي احتك فيها المغرب بالآخر الأوربي بشكل واضح. احتكاك أثر على المجتمع المغربي وبنية جهازه المخزني، حيث عرفت الحكومة المغربية تغيرات مهمة بابتكار دواليب حكومية وإدارية لم تكن معروفة من قبل، واتضح ذالك بشكل واضح في عهد كل من محمد بن عبد الرحمان و الحسن الأول.

    إن هذه التحولات التي طرأت على مفهوم “المخزن” هي التي كانت وراء اختلاف المقاربات والاتجاهات النظرية حوله. ومن تم فالإمساك بخيوط هذا الإشكال يفرض ضرورة استقراء مختلف هذه المقاربات.

    ثانيا- المخزن المغربي: اتجاهات ونظريات

    كانت تتحكم في النسق السياسي والاجتماعي المغربيين خلال الفترة ما قبل الاستعمارية، ثلاث بنيات تقليدية أساسية وهي:المخزن والقبيلة ثم الزاوية. وعلى أساس هذه الثوابت ناقش الباحثون مفهوم المخزن، نقاشا نتج عنه اتجاهات/نظريات كبرى يمكن تحديدها على الشكل التالي:

    أ‌- مخزن القبيلة

    يرى المدافعين عن هذا الطرح أن السلطة السياسية وممارستها – بالمغرب- مرتبط بالمجتمع القبلي، ذلك أن المقابلة أو التناقض المستمر بين سكان البوادي الرحل والمستقرين، هو الذي يؤدي إلى قيام السلطة السياسية، وبالتالي إلى قيام المخزن كإطار لممارسة هذه السلطة. وما دام أن هذه السلطة قبلية في قيامها وترسيخها، فإن المخزن يكون حتما قبليا في بنياته، فنقول إذن هذا المخزن موحدي مصمودي، والآخر مرابطي صنهاجي، والثالث مريني زناتي، وهكذا. فالمخزن بهذا المفهوم هو مخزن القبيلة أو الاتحاد القبلي الذي يكون مهيمنا في حقبة تاريخية معينة.

    وكان ممن دافع عن هذه النظرية الفرنسيان كوتيه وهنري تيراس. إذ ربطا المخزن بالقبيلة، وهي نظرية تمتد جذورها إلى ابن خلدون الذي ربط السلطة السياسية بالأساس القبلي، مبرزا الدور الذي لعبته القبيلة في تاريخ المغرب، فقد اعتبر ابن خلدون أن الصراع بين السكان البوادي الرحل والمستقرين نتيجته قيام سلطة سياسية، وبالتالي خلق جهاز مخزني.

    وإذا كانت الدراسات قد أثبتت حضور القبيلة أثناء قيام السلطة أو ترسيخها، فان الذين كانوا يعتبرون المخزن قبليا كانوا يقدمونه في الحقيقة كجيش أو كفيودالية، إذ جاء روبير مونتاني بفكرة “المخزن الفيودالي”، فأعتبر أن الصراع بين المخزن والقبيلة صراع بنيوي ناتج عن تعارض المصالح بين الطرفين، طرف ينزع إلى الاستقلال والانفصال (القبيلة)، وطرف يسعى إلى تكريس السلطان على مجال القبيلة. وتحدث عن بلاد السيبة مقابل بلاد المخزن، والقبيلة في مقابل المخزن، ليكون بذلك “المخزن”- حسب تصور مونتاني- خصما للقبيلة ومنافسا لها، وليس آلية لممارسة السلطة داخل القبيلة.

    وإذا كان مونتاني ممن “صوروا الدولة (المغربية)على أساس الثنائية المفترضة بين”بلاد المخزن” و”بلاد السيبة”، فإن الدراسات المونوغرافية العديدة التي أنجزت خلال العقود الأربعة الأخيرة حول مغرب القرن التاسع عشر تدعوا إلى إعادة النظر في إجرائية هذه الثنائية وصلاحيتها لتفسير تاريخ المغرب الحديث، أو على الأقل التحفظ من اعتمادها بشكل قطعي وجامد.إذا كانت لهده الثنائية خلفية استعمارية تهدف إلى تبرير الاحتلال، فإن وراءها كذالك سوء فهم للواقع المغربي وإصرار على تحليل تاريخه باستعمال مقاييس أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تأخذ بالحسبان الخاصيات التاريخية والثقافية لبلد كالمغرب.

    هذا وإن كان رفضنا للثنائية المخزن/السيبة، التي قال بها المستعمر، واستمر البعض في تكريسها، هذه الثنائية التي تفترض وجود قطيعة متواصلة ومتأصلة بين طرفين متعارضين بنيويا هما / المخزن والقبائل، لا يجب أن يقودنا بالضرورة إلى الموقف المضاد الذي يغالي في التأكيد على عناصر الوحدة داخل المجتمع المغربي، وذلك بإظهار المخزن كرمز للوحدة والانسجام والالتحام داخل المجتمع. إذ في الوقت الذي اعتبرت فيه المدرسة الاستعمارية المخزن جهازا طفيليا يمتص أعضاء الجسم “البربري”، تجد الكتاب المخزنيين يعتبرونه (أي المخزن) جهازا برعاية سلطان عادل.

    والواقع أن الحكم على علاقة المخزن بالقبيلة في تاريخ المغرب لا يمكن أن يستقيم دون فهم محددات هذه العلاقة ووضعها في سياقها التاريخي المتحكم في انسجام الطرفين تارة وصراعهما تارة أخرى.

    ب- مخزن الزاوية

    مقابل “المخزن /القبيلة” اقترح كليفورد كيرتز نظرية “المخزن – الزاوية”، منطلقا مما لعبته الزوايا من أدوار تاريخية مهمة في تاريخ المغرب، وفي تأسيس السلطة السياسية به في بعض الفترات التاريخية كالعهد المرابطي والموحدي والسعدي، والنموذج الزاوية الدلائية خلال القرن السابع عشر التي كانت تتوفر على مخزن بسلطانه وجهازه الإداري.

    ومن هنا فإن مختلف الأدوار السياسية والدينية والاجتماعية التي فرضها الواقع المغربي في فترات مختلفة، هي التي جعلت من الزاوية كيانا إداريا منظما “مخزن” يترأسه شيخها.

    كما اقترح كليفورد مفهوم “النموذج المركزي” كمفهوم محوري لدراسة التصور الذي يرسخه المخزن داخل المجتمع فـالحضرة السلطانية من هذا المنظور صورة من النظام الإلهي ومعيار للنظام الاجتماعي).

    ج- مخزن السلطان

    نظرا لأن السلطان هو محور النسق المخزني، لوظائفه الدينية التي يتمتع بها والتي منحته سلطة واسعة النطاق، بنى هذا الاتجاه رؤيته، فربط المخزن بشخصية السلطان وحاشيته.

    ويعني مخزن-السلطان شيئين متكاملين: من جهة مؤسسة سياسية يمارس عبرها الحكم، ومن جهة ثانية نظام اجتماعي وسياسي له ميكانيزماته وتشعباته وجميع دواليبه (السلطان، الجيش، الموظفون، وكل مايرتبط بالسلطان أو يضع نفسه في خدمته، ومدافعا عن شرعيته سعيا وراء الاعتراف له بصفة الانتماء.

    د- المخزن عند عبد الله العروي

    يرى عبد الله العروي أن المخزن خلال القرن التاسع عشر اتخذ معنيين أساسيين:

    * المخزن كجهاز إداري: ويتكون وفق هذا المفهوم من أداتين رئيسيتين هما: البيروقراطية والجيش.

    فالجيش الذي يتكون من قبائل الكيش والنوايب والعسكر، يشكل الأداة الأمنية والقمعية للمخزن.

    والبيروقراطية: التي تتكون من كتاب الدواوين والأمناء… تشكل الأداة الإدارية للمخزن.

    غير أن المخزن كجهاز تنظيمي -من منظور العروي- لا يقتصر فقط على الجيش والبيروقراطية، بل يتألف أيضا من كل من يتلقى راتبا من بيت المال مقابل وظيفة في حفظ الأمن والتظام سواء في البوادي أو في المدن. لذا فإن كل هؤلاء يندرجون في إطار المخزن، الشيء الذي يؤدي إلى إطلاق الألقاب المخزنية عليهم.

    وهكذا فالمكلفون بالحراسة وفرض الأمن يسمون بالمخازنية والعائلات التي تتعاقب على توالي المناصب الوزارية تسمى العائلات المخزنية.

    وبالتالي تصبح “المخزنية” تفيد معنى الوظيفة أوالراتب. وبالتالي مرادفة للسلطة.

    * المخزن كنخبة اجتماعية.

    إلى جانب المفهوم الضيق للمخزن (المخزن كجهاز إداري)، قدم العروي مفهوما آخر أكثر اتساعا، يتجلى في أن المخزن يتضمن بالإضافة إلى الفئات السابقة: فئة الخاصة –الشرفاء والصلحاء – قبائل الكيش .

    وبهذا يكون المخزن من هذا المنظور وبكل مكوناته وتركيبته تنظيما لا يمكن للسلطان أن يستغني عنه إذا أراد ضمان استمرار سلطته. فالمخزن جماعة تتولى مهمتي: تنفيذ الأوامر، وإضفاء الشرعية على سلطة السلطان وتضخيمها.

    إن المخزن حسب الأستاذ العروي، هو ذاك المجموع المركب من عناصر مختلفة، ذات وظائف مختلفة، إدارية صرفة وأخرى أمنية ثم اجتماعية ورمزية. والغاية الكبرى لتلك العناصر هي ضمان استمرارية الدولة وسيادة سلطة السلطان.

    وفي مقابل ذلك اعتبر الهادي الهروي أن المخزن كنسق هو أداة للدولة من نمط إرثي، يقوم على علاقات نسبوية، وعلى نظام من المراتب الإدارية المنظمة والهادفة إلى تمركز الحكم وتكوين عساكر ناجعة وضبط الرعية وجبي الضرائب في المناطق المراقبة واللجوء إلى التوازنات في الجهات المعادية (السائبة). وقد اعتمد المخزن في ذالك على هرمية رمزية وإدارة “بيروقراطية” تطورت ابتداء من 1860.

    فالمخزن بهذا المعنى جماعة من الأفراد الذين تؤلف فيما بينهم المصالح المادية والمطامح الشديدة للاغتناء والثروة على حساب إخضاع الرعية بتوزيعها إما إلى ثلاث أو أرباع أو أخماس، أي إلى فخدات إدارية).

    على سبيل الختم

    على كل ما سبق، يبدو واضحا مدى التطورات التي عرفتها دلالة “المخزن”، الذي كان ظاهرة لازمت تاريخ الدولة المغربية منذ زمن غير يسير، ظاهرة تجسدت عبرها آليات الحكم بين الدولة والمجتمع عبر جهاز إداري مركب، حيث تمارس السلطة من قمة الهرم المخزني الذي يجسده السلطان إلى قاعدته.

    فالمخزن بكل اختصار هو الأداة الهيكلية والفكرية والاجتماعية والتصورية المسيرة للدولة المغربية.

  • مقترح: استضافة الاجتماع القادم لمجلس آمناء المجموعة الازمات الدولية

    المقترح:
    استضافة الاجتماع القادم لمجلس آمناء المجموعة الازمات الدولية (ومقرها بروكسل) في ابريل ٢٠١٤ على ان يكون بالرباط وأن تدعمه الحكومة ببعض التكاليف (الاقامة الفندقيه مثلا).
     
    International Crises Group
     
    مجلس آمناء المجموعه الدولية للأزمات يتشكل من ٤٠ عضوا من بينهم:
    توماس بيكارينج : رئيس المجلس٫ مساعد وزير الخارجية الامريكية السابق ،سفير سابق في عدد من الدول ورئيس سابق لمجلس ادارة البوينج
    لويس آربور: المدير التنفيذي للمؤسسه، المفوض السابق لحقوق الانسان بالامم المتحدة، المدعي العام السابق لمحكمة الجنايات الدولية.
    مارك ملوخ-براون: نائب رئيسس المجلس، الامين اعام المساعد للامم المتحدة سابقا ومدير سابق لمشروع UNDP
    كوفي عنان: الامين العام السابق للامم المتحدة
    ساندي بيرجر: مستشار الامن القومي الامريكي السابق 
    ويزلي كلارك: القائد الآعلى لقوات الناتو سابقا
    جوشكا فيشر: وزير الخارجية الآلماني الاسبق
    مارك آيسكنز: رئيس وزراء بلجيكا السابق
    ريكاردو لاجوس: رئيس الإكوادور السابق
    لاليت مانسنج: وزير خارجية الهند السابق
    بينجامين مكابا: رئيس تنزانيا السابق
    لورنس بارينوسوت: رئيس فدرالية رجال الآعمال بفرنسا
    جورج سوروس: رجل آعمال
    خافير سولانا: مسؤول العلاقات الخارجية السابق بالاتحاد الآوروبي
    وو جيانمين: المندوب السابق للصين في الامم المتحدة
    غسان سلامة: وزير الثقافة اللبناني السابق
    شيريل كارولاس: الآمين العام السابق للاتحاد الوطني الافريقي بجنوب افريقيا
    بار ستينباك: وزير خارجية فلندا السابق
    ميشلين كارمي لي : رئيسة فلندا السابقة
    وضاح خنفر: المدير العام السابق لشبكة الجزيرة
    ناحوم بارنيا: كاتب في صحيفة يديعوت آحرونوت الإسرائيلية
    تمويل المجموعه:
    يتم تمويل المجموعه من تبرعات حكومية وخاصة، ومن اهم المتبرعين :
    الحكومات (بنسبة تصل الى نصف موازنة المجموعه):
    استراليا، النمسا، بلجيكا، الاتحاد الأوروبي، كندا، الدنمارك، ألمانيا، السويد، النرويج، بريطانيا وأمريكا وتركيا.
    الشركات:
    BP
    Stephen & Jennifer Dattels
    Frank Holmes
    Investec Asset Management
    Steve Killelea
    McKinsey & Company
    Pierre Mirabaud
    Ford Nicholson & Lisa Wolverton
    Sherman & Sterling LLP
    White & Case LLP
    Neil Woodyer
    المؤسسات:
    Adessium Foundation
    Carnegie Corporation of New York
    Elders Foundation
    William and Flora Hewlett Foundation
    Humanity United
    Henry Luce Foundation
    John D. and Catherine T. MacArthur Foundation
    Oak Foundation
    Open Society Foundations
    Ploughshares Fund
    Radcliffe Foundation
    Rockefeller Brothers Fund
    The Stanley Foundation
    The Charitable Foundation
    Tinker Foundation, Inc.